الصورة أعلاه عن دليل دمشق الصادر عام ١٩٤٩ ويبقى أفضل ما كتب عن الصراع على سوريا دراسة العالم والصحفي البريطاني الإيرلنديّ المولد Patrick Seale الصادرة عام ١٩٦٥.
اعتبر Seale سوريا الحديثة الاستقلال بمثابة الجائزة والفوز بها يعني الهيمنة على سياسات الشرق الأدنى الإقليميّة أمّا عن أطراف النزاع فكانت محور القاهرة-الرياض من جهة ومحور بغداد-عمّان من جهة ثانية. انتهى الصراع عام ١٩٥٨ بفوز المحور الأوّل.
شكّلت مصر الملكيّة في عهد فاروق ثمّ "الضبّاط الأحرار" بزعامة عبد الناصر مع السعوديّة محور القاهرة-الرياض الذي تصدّع في النصف الثاني للخمسينات وقدّر له أن يتحوّل إلى عداء صريح بين الطرفين في الستّينات على مسرح حرب اليمن أمّا محور بغداد-عمّان الهاشمي فقد تنازع فيه مشروعان الأوّل "الهلال الخصيب" الذي نادى به الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله والثاني "سوريا الكبرى" كما رآها ملك الأردن عبد الله الأوّل. المشروعان متماثلان عمليّاً والخلاف على الزعامة ليس إلّا. بالنتيجة وحّد الهاشميّون جهودهم في محاولة للردّ على الوحدة المصريّة-السوريّة عام ١٩٥٨ وولد الاتّحاد العربي الهاشمي في شباط من هذا العام (أي نفس الشهر الذي أعلنت فيه الوحدة) ولكنّ حياته لم تتجاوز الخمسة أشهر إذ انتهى في حمّام دموي في تمّوز من نفس العام عندما قام أشباه البشر بسحل جثّتيّ نوري السعيد وعبد الإله العاريتين في شوارع بغداد. ظلّ العرش الأردنيّ مهتزّاً لعدّة سنوات بعدها ومن الصعب لمن عاصر هذه الأحداث أن يتصوّر أنّ الملكيّة الأردنيّة ستستمرّ حتّى يومنا هذا.
علّ حسني الزعيم أفضل من يمثّل تذبذب سوريا بين المحورين الهاشمي والمصري وأقول المصري لأنّ مصر كانت مركز ثقل محور القاهرة-الرياض وبقيت حتّى منتصف القرن العشرين رغم جميع مشاكلها الداخليّة والخارجيّة أغنى الدول العربيّة وأكثرها تقدّماً قبل أن تغيّر عائدات النفط هذه المعادلة في العقود اللاحقة. مال الزعيم نحو الهاشمييّن في البداية ثمّ غيّر اتّجاهه بسرعة صاروخيّة إلى القاهرة بعد أن استقبله الملك فاروق استقبالاً رائعاً في أنشاص عاد منه "معجباً بكلّ ما هو مصريّ".
انتهى الصراع على سوريا إذاً بانتصار مصر والوحدة التي دامت ثلاث سنوات ونصف قبل أن يسقطها انقلاب عبد الكريم النحلاوي في أيلول ١٩٦١. شهد عقد الستّينات صراعاً على السلطة في سوريا حسمه حافظ الأسد عام ١٩٧٠ وبدأت بعده مرحلة "الصراع على الشرق الأوسط" حسب Patrick Seale الذي كانت سوريا أحد أقطابه بعد أن كانت ميدانه.
تبدّلت الأمور جذريّاً فيما بعد مع معاهدة السلام المصريّة-الإسرائيليّة ١٩٧٩ وحرب العراق-إيران ١٩٨٠-١٩٨٨ ومن ثمّ مغامرة صدّام حسين في الكويت عام ١٩٩٠. تعدّدت العوامل ولكن ما على النتيجة من خلاف: تحوّل مركز ثقل العالم العربي المالي وبالتالي السياسي إلى الخليج ودول النفط تحت الحماية الأمريكيّة وبالتفاهم السرّي أو العلني مع إسرائيل بينما أصبحت المشاكل الداخليّة والتصدّي للغزو الخارجي الهمّ الشاغل لعواصم الشرق الأدنى التقليديّة من القاهرة إلى بغداد إلى دمشق.
هذا لا يعني عدم وجود تيّارات متنافسة إن لا نقل متعادية في العالم العربي والشرق الأدنى اليوم فلدينا مثلاً المحور السعودي-الإماراتي في مجابهة مع المحور القطري-التركي أمّا عن عوامل التناحر بينهما فهي لا تختلف كثيراً عن أسباب المهاترات القبليّة التقليديّة وحروب داحس والغبراء. شتّان بين العهدين.
No comments:
Post a Comment