قدّر لجمال عبد الناصر أن يلفظ آخر أنفاسه في الثامن والعشرين من شهر أيلول سبتمبر عام ١٩٧٠ وصادف أن يكون هذا في نفس اليوم الذي أجهضت فيه الوحدة المصريّة-السوريّة عام ١٩٦١. الصورة الملحقة غلاف العدد ٧٥٦ من مجلّة سمير الصادر في الرابع من تشرين ثاني عام ١٩٧٠ وأتى أكثر من غلاف بعده حاملاً صورة الفقيد مع مقال أو مقالات في متن المجلّة عن سيرته وإنجازاته.
أمسك جمال عبد الناصر زمام الأمور في مصر - مباشرة أو من وراء الكواليس - لفترة دامت ثمانية عشر عاماً بداية من تمّوز يوليو عام ١٩٥٢ والحكم على أداءه في ذلك الجيل رهن بالشعب المصري بالدرجة الأولى ولكن يصحّ القول أنّ أثره تجاوز بكثير حدود مصر على أهمّيتها واتّساعها ولم يكن الفكر الناصري مقتصراً على وادي النيل كما أوضح الرئيس الراحل في كتابه فلسفة الثورة الذي رسم من خلاله دور مصر في ثلاثة دوائر: عربيّة وإسلاميّة وإفريقيّة. أقتصر هنا على محاولة سريعة لفهم ظاهرة جمال من منظور سوري.
بلغت شعبيّة عبد الناصر في الشرق الأدنى الذروة مع تأميم قناة السويس والأحداث التي تلتها وكلّلت أمجاده في الوحدة مع سوريا في شباط ١٩٥٨ بينما كان خصومه الإقليميّين يتراجعون على كلّ الجبهات أو هكذا بدت الأمور وقتها خصوصاً مع سقوط الملكيّة في العراق صيف ١٩٥٨. حتّى على الصعيد العالمي كشفت حرب السويس (بفضل التدخّل الأمريكي) عام ١٩٥٦ عجز القوى الاستعماريّة التقليديّة الممثّلة في إنجلترا وفرنسا عن الدفاع بمفردها عن مصالحها وامتيازاتها في العالم الثالث واستطاعت السياسة المصريّة استغلال الوضع الدولي الجديد بمنتهى المهارة وتحويل هزيمة عسكريّة لا شكّ فيها إلى انتصار ديبلوماسيّ ومعنويّ من الطراز الأوّل.
إذاً بنى عبد الناصر في العالم العربي عموماً وسوريا خصوصاً رصيداً ضخماً توّج بالوحدة التي دغدغت أحلام السورييّن الوطنيّة منذ عهد الانتداب على أقلّ تقدير.
مع الأسف تضافرت الكثير من العوامل المحليّة والإقليميّة والدوليّة لإجهاض المشروع وإلى اليوم لا يستطيع كثير من السورييّن النظر إلى ما جرى وقتها بتنزّه عن العواطف فبعضهم (كالشاعر الراحل نزار قبّاني) يمجّد عبد الناصر إلى درجة رفعه - واو مجازيّاً - إلى رتبة الأنبياء والبعض الآخر يعتبرونه مسؤولاً عن جميع المصائب التي حلّت بسوريا إلى اليوم.
النقيض الثاني مرفوض جملة وتفصيلاً. حتّى لو سلّمنا جدلاً أنّ عهد الوحدة كان كارثة على الشام من ألفه إلى يائه فهذا العهد لم يدم أكثر من ثلاثة سنوات ونصف سنة مضى على انصرامه ستّون عاماً وعلى موت عرّابه نصف قرن وكان باستطاعة أي حكومة سوريّة أن تمحي كلّ آثاره إذا اختارت وقد محي منها بالفعل الكثير.
الأسطر التالية وما سبقها "لسوريا لا لعبد الناصر" (مع الإذن من الصحافي الكبير الراحل محمّد حسنين هيكل).
هل كان عبد الناصر ملاكاً؟
بالتأكيد لا. لا يمكن لأي قدّيس أن يؤسّس دولة ويدافع عنها. الملائكيّة في موضع مسؤوليّة بهذا الحجم غير محمودة العواقب وعلى رئيس أي بلد كبير أن يعرف أين تجوز المساومة والتفاهم وأين يتعيّن البطش بالخصوم دون رحمة أو وازع من ضمير في سبيل المصلحة العليا. الغاية تبرّر الواسطة وليس الخير والبرّ والإحسان بمغهوم مطلق من سمات القادة.
هل تضرّر البعض من سياسات عبد الناصر؟
الردّ قطعاً بالإيجاب. أي نظام اقتصادي فيه الرابحون وفيه الخاسرون والدولة المثلى (واقعيّاً وليس عاطفيّاً) هي التي تسهر على مصلحة أكبر عدد ممكن من مواطنيها وليس على امتيازات فئة أو فئات معيّنة. إرضاء الجميع غير وارد وإذا كان هناك متضرّرون من التأميم (وبعضهم تعرّض للظلم ما في ذلك من شكّ) فهناك أيضاً منتفعون. في كلّ الأحوال حاولت حكومة "الانفصال" إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإلغاء التأميم وفشلت وتبقى تأميمات عبد الناصر محافظة بالمقارنة مع تأميمات البعث (خصوصاً في الستينات) لاحقاً.
ماذا عن هزيمة حزيران ١٩٦٧؟
يتعيّن هنا الإقرار بمسؤوليّة عبد الناصر ولكن من العدل التذكير بأنّ مصر تورّطت في الحرب في محاولة من عبد الناصر لردع إسرائيل عن ضرب سوريا. يمكن بسهولة التحقّق ممّا أقول باستقراء الحوادث التي سبقت الكارثة وكيف أغلق الرئيس المصري مضائق تيران بعد أن وصلته عن طريق الروس معلومات (هناك خلاف على مصداقيّتها) تفيد بحشد إسرائيلي على الحدود السوريّة. مع الأسف لم تكن مصر ولا حلفائها السورييّن والأردنيييّن على قدر كافٍ من القوّة للتصدّي لإسرائيل وقتها وجرى ما جرى.
أضف إلى ذلك أنّ عبد الناصر هو القائد العربي الوحيد وقتها الذي اعترف بمسؤوليّته الكاملة عن الكارثة وعرض أن يتنحّى. حتّى لو كانت استقالته تمثيلاً (وليس على ذلك دليل) فهي رصيد له لا يجوز إسقاطه من أي محاولة لموازنة حسناته وسيّئاته.
تشير الدلائل المتوافرة أنّ جمال عبد الناصر كان مدركاً لضعف الدول العربيّة وعزوفاً عن خوض مغامرة عسكريّة لا يمكن حسبانها على عكس بعض المسؤولين السورييّن (بداية من مزاودات الرئيس الراحل أمين الحافظ) واعتقد - مخطئاً كما ثبت لاحقاً - أنّه يستطيع كبح جماح إسرائيل دون مجابهة عسكريّة.
لا داعي للدخول في تفاصيل محاولات تخوين عبد الناصر واتّهامه بالعمالة للمخابرات الأمريكيّة (كما فعل بعض أبواق الإنفصال ومنهم على سبيل المثال نهاد الغادري) أو تكفيره (كما فعل الإعلام السعودي) فهي ليست جديرة بمناقشة جدّية.
مع نهاية حرب الأيّام الستّة بدأت شمس اليسار العربي (وحتّى الدولي كما في حالة الاتّحاد السوفييتي) بالأفول وإن لم يدرك ذلك الكثيرون وقتها وتزايد نفوذ دول النفط والمصالح الغربيّة ورائها.