Friday, December 11, 2020

هويّة عثمانيّة أم هويّة عربيّة؟


كان إسقاط قيم الحاضر على الماضي ولا يزال هو القاعدة وليس الاستثناء ويستوي العامّة مع معظم الأخصّائيّين في هذا المجال. جميعنا ننظر لا شعوريّاً إلى أحداث الماضي السحيق بعيون ومفاهيم اليوم بغضّ النظر عن منطقيّة هذه النظرة من عدمها: من هذا المبدأ الأديان السابقة للمسيحيّة وثنيّة في عيون المسيحييّن والعهود السابقة للإسلام جاهليّة في رأي المسلمين أمّا العروبيّون ففي زعمهم أنّ كلّ من مرّ على العالم العربي (أي البلاد الناطقة بالعربيّة اليوم) كان مستعمراً باستثناء "العرب السامييّن" (لسبب من الأسباب لا يدخل كتبة التاريخ السوري الرسمي اليهود في عداد العرب السامييّن) والأنباط والتدمرييّن والغساسنة والمناذرة والفتح العربي-الإسلامي في القرن السابع الميلادي. يمكن عند اللزوم اعتبار صلاح الدين وابن سينا والرازي والبخاري وابن ميمون وكثير ممّن تكلّم أو كتب بالعربيّة كلغة العلم في مطلع العصور الوسطى "عربيّاً" لا لشيء إلّا أنّه "يبيّض الوجه" مهما كانت لغته الأمّ أو مسقط رأسه.   


استمراراً لهذا المنطق العهود اليونانيّة-الرومانيّة (ألف عام) استعمار وكذلك الحال بالنسبة للمماليك (٢٥٠ سنة) والعثمانييّن (٤٠٠ سنة). لا شكّ أنّ هؤلاء وغيرهم فتحوا الشرق الأدنى بحدّ السيف (تماماً كما فعل "العرب الآشورييّن" و"العرب الفراعنة" وهلمّجرّا) ولكن ماذا عن الجيل الثاني والثالث والرابع والعاشر؟ هل يبقى أولاد وأحفاد "المستعمر" مستعمرين إلى الأبد؟ 


عاجلاً أم آجلاً ستهضم المجتمعات المضيفة ضيوفها الغير مرغوب فيهم (باستثناء الغازي الذي يعود من حيث أتى بعد أن يقضي وطره من السلب والنهب والقتل وانتهاك الحرمات) وسيتزاوج المعتدون مع المعتدى عليهم وتنصهر ذرّيّتهم في نفس البوتقة. من نافل القول أنّ التاريخ قدّم لنا العديد من الأمثلة على الإبادة الجماعيّة والتهجير ولكن هذه الحالات -على هولها وبشاعتها- استثناءات إذا استعرضنا المجتمعات الإنسانيّة عبر آلاف السنين. 


هل كان الوجود العثماني في بلاد الشام استعماراً؟ هذا ما درسته مع الملايين غيري في المناهج السوريّة مع قصّة "السلطان الأحمر" عبد الحميد وجمال باشا "السفّاح" و"الثورة العربيّة الكبرى" وسلخ لواء اسكندرون دون التعرّض إلى المأساة التي يعيشها وطننا الأمّ اليوم والعلاقات التركيّة-السوريّة خلالها. طالعنا روايات النهضة العربيّة في أواخر القرن التاسع عشر وناصيف اليازجي وبطرس البستاني وجمعيّات العهد والعربيّة الفتاة وهلمجرّا ولا تعدوا جميعها قراءة للتاريخ بمفعول رجعي. السوري عام ١٥١٦ استبدل سيّداً (المماليك) بسيّد (العثمانييّن) في عهد لا يعرف القوميّات الحديثة وكانت سوريّا فيه لا تعدوا مفهوماً جغرافيّاً وليس كياناً "جغرافيّاً-سياسيّاً" ناهيك عن "أمّة" بمعايير القرن التاسع عشر. 


"الأمّة" في الشرق الاّدنى كانت "أمّة الإسلام" في نظام "الملّة" -أي الدين- العثماني. تمتّعت هذه "الملل" المسيحيّة واليهوديّة والإسلاميّة بنوع من الاستقلال في الأمور المدنيّة (زواج وطلاق والشعائر عموماً) وتبعت سياسيّاّ القسطنطينيّة.  استمرّ هذا النظام حتّى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتحديداً حتّى صدور قانون المواطنة العثماني عام ١٨٦٩ عندما منحت الجنسيّة العثمانيّة للجميع بغضّ النظر عن الدين أو الأصل العرقي أو القبلي وهكذا تحوّل "الرعايا" إلى مواطنين في "التابعيّة العثمانيّة" الحديثة. 


استاء بعض المسلمين من القانون الجديد الذي اعتبروه ماسّاً بسيادتهم التقليديّة ونظر إليه بعض "أهل الذمّة" بعين الريبة والسبب بسيط: لا يمكن فصل حقوق المواطنة عن واجباتها (الخدمة العسكريّة المكروهة في حروب لا نهاية لها مثلاً). مع ذلك من الإنصاف القول أنّ القانون الجديد كان خطوة في الاتّجاه الصحيح وحاز على قبول الكثيرين ولربّما أكثريّة السورييّن -على أقلّ تقدير نخبة المدن- كما تدلّ الإصلاحات وانتشار العمران والتحديث في دمشق أواخر العهد العثماني. ترجم ذلك بشعارات الطغرة (الطرّة) السلطانيّة واللوحات الجداريّة التي كست جدران عدد من بيوت الأسر الشاميّة ونرى فيها البوسفور والسفن والحدائق والمآذن تختال تحت قبّة السماء الزرقاء كما في اللوحة الملحقة من بيت القبّاني (طبقة وسطى موسرة) عن Weber.


لا ريب أنّ ما ينطبق على دمشق ينطبق أيضاً على حلب (لربّما لدرجة أكبر نظراً لقربها من العاصمة الإمبراطوريّة) وعدد من المدن السوريّة. 


باختصار ليس من المبالغة القول أنّ كثيراً من السورييّن عام ١٩٠٠ - إن لم نقل معظمهم - اعتبروا أنفسهم مواطنين عثمانييّن أمّا عن سورييّ عام ١٨٠٠ و  ١٧٠٠ وما سبقها فقد عاشوا وماتوا وعاش أجدادهم وماتوا في ظلّ الحكم العثماني الذي لم يعرفوا شرعيّةً سواه على علّاته. 





قانون الجنسيّة في الدولة العثمانيّة


ساحة المرجة وانتقال مركز المدينة إلى الغرب


أسواق دمشق العثمانيّة الحديثة






Stefan Weber. Damascus Ottoman Modernity and Urban Transformation 1808-1918. Proceedings of the Danish Institute in Damascus V 2009.



No comments:

Post a Comment