Monday, January 15, 2024

رثاء ندرة مطران

 


أشرت في منشور الأمس إلى نعي ندرة مطران في مجلّة سركيس (السنة التاسعة ١٩١٦) وإلى شحّ المعلومات عن مؤلّف كتاب"سوريّة الغد". الفضل في منشور اليوم يعود بالدرجة الأولى والأخيرة إلى الصديق العزيز الأستاذ خلدون عجّان الذي تلطّف فزوّدني بنسخة إلكترونيّة من هذا الرثاء الذي نشرته المجلّة على صفحاتها ٣٧٥ - ٣٧٩. الأسطر التالية محاولةٌ منّي لتلخيص المقال وإيضاح بعض النقاط التي قد تلتبس على القارئ المعاصر.  


ندرة مطران من مواليد بعلبك ١٨٦٨ ووفيّات پاريس ١٩١٦ عن عمر ناهز ٤٨ عاماً "قبل أن يرى فجر النجاة من العصر القديم المظلم". 


عاصر مطران أواخر عهد الإمبراطوريّة العثمانيّة وكان "حسن الظنّ" بمستقبل "أحرار الأتراك" وخصوصاً من أسماهم الجون ترك (١) الذين ساعدهم ماليّاً وأدبيّاً منذ العام ١٨٩٥ وكان أحد أربع أشخاص من مؤسّسي الجمعيّة وجريدة "مشورت" في پاريس (٢). أحاط الجون ترك أو الأتراك الفتيان بندرة مطران "إحاطة السوار بالمعصم" إبّان إقامته في الأستانة عندما أعلن الدستور عام ١٩٠٨ (٣) واتّخذوا منزله "مرجعاً يقابلون به السياسييّن والصحافييّن والأجانب ... ويضيفون ويأكلون ويشربون" على حسابه.


لجأ بعض من "الجون ترك" إلى ندرة مطران مجدّداً عندما قامت الثورة الارتجاعيّة (٤) عام  ١٩٠٩ فآواهم وحفظهم "حفظ بؤبؤ العين" لمدّة إثني عشر يوماً مجازفاً بذلك بحياته وحياة أولاده حتّى انفرجت الأزمة وعادوا إلى الحكم. استمرّ مطران في خدمتهم بماله وتكلّف عليهم عشرة آلاف ليرة وكان مع شقيقه (٥) "أعظم عامل في استرداد مدينة أدرنة" (٦) "ثمّ أكبر مساعد لعقد قرض الخمسمائة مليوناً التي استلفوها قبل الحرب". أضف إلى هذا وذاك قيام شقيق ندرة بدفع أجرة الفنادق والعربات والخدم نيابةً عن جمال باشا وتسديد ديون هذا الأخير في القمار (جميع حكّام الإمبراطوريّة العثمانيّة وقتها "مولعون بالمقامرة ما عدا أنور"). 


بادل جماعة تركيّا الفتاة جميل آل مطران بالجحود وحاولوا اغتيال ندرة عدّة مرّات في دمشق والآستانة في الوقت الذي "كانوا يلبسون أثوابي ويتغذّون بخبزي".


هذه التفاصيل وغيرها مذكورة في سلسلة مقالات لجريدة الفتاة (٧) في نيويورك كتبها ندرة مطران قبل وفاته بأسابيع قليلة.  


اختم بنعي خليل مطران (ابن عمّ ندرة): 


"في الثامنة والأربعين من العمر. جميل الطلعة. فوق الربعة. حديد الناظرين قويّ العارضة. بعيد المطمح. شاسع المطمع.

محدّث في المحدّثين. خطيب في الخطباء شاعرٌ في الشعراء. لاعب في اللاعبين جدّ في أهل الجدّ. نديم أمراءٍ سمير علماءٍ مدنيّ مترف. فارس خشن.

يجيد العربيّة والفرنسيّة في اللغات وله مشاركات في كثيرٍ من العلوم. يلطف لمآربه. ويشتدّ على ذي الحول. يوسع الفقير إسعاداً ويقتل ماله إنفاذاً. 

رجلٌ بكلّ المعنيين: يرجى ويخشى حبيب المجانسة بغيض الفتك. 

هذا ما يمرّ برأسي جملة من معانيه. ولو أردت التفصيل أو مزيد البيان لما أطلت فإنّ مصابنا لم يبق لي رشدا. أجدني تجاه نعشه بادي المقتل جزعاً صاغراً إذا أجلت الفكر لم يجل وإذا أجريت الكلام احتبس فغاية جهدي في هذا الموقف الرهيب لدى هذا الوداع الأليم أن أقول له. أي أخي:

في ذمّة الله وفي عهد فضائلك وحسناتك اذهب مستدرّاً من دموعنا مقتطعاً من قلوبنا وأمّا وقد ضاقت بك الدنيا الذميم فلتسعك جنّة ربّك الرحيم".







(١) الأتراك الفتيان من تركيّا الفتاة. كتب مطران مصطلح Jeunes-Turcs بكل بساطة بالأحرف العربيّة عوضاً عن اللاتينيّة. 

(٢) الثلاثة الآخرون: أحمد رضا والدكتور ناظم وخليل غانم

(٣) عندما أجبرت حركة تركيّا الفتاة السلطان عبد الحميد الثاني على إعادة دستور ١٨٧٦

(٤) أو الحركة الارتجاعيّة. محاولة فاشلة لإعادة حكم السلطان عبد الحميد. 

(٥) لربّما كانت الإشارة إلى نخلة باشا مطران الذي اعتُقِلَ في دمشق وقُتِل عام ١٩١٥.  

(٦) خسر العثمانيّون أدرنة في حرب البلقان الأولى واستعادوها في حرب البلقان الثانية. يُطْلَق على هاتين الحربين أيضاً اسم "حروب الروملّي". 

(٧) صدرت أكثر من جريدة باسم الفتاة في المهجر في تلك الفترة إحداها في بوسطن والثانية في الأرجنتين ولربّما كان هناك المزيد. لست متأكّداً ما هي الجريدة المقصودة. 

No comments:

Post a Comment