وفوائد الاستبداد
أودّ قبل تعريب آراء ندرة مطران عن الموضوع إبداء رأيي الشخصي في المسألة - وليس في أسلوب حلّها الذي لا أدّعي معرفته - منعاً لأيّ التباس: الديمقراطيّة وهم وخيال في كل زمان ومكان بغضّ النظر عن نظام الحكم. الممسك بمقاليد الأمور دائماً وأبداً، سواءً كان ذلك جهراً أم من وراء الكواليس، ائتلافٌ نخبوي من القوى والمصالح الماليّة والعسكريّة. من الصحيح أنّ هامش حريّة العمل السياسي والتعبير أوسع في البلاد المتقدّمة (أي "الغرب") ولكن هذا لا يعكس رغبةً صادقةً من الحكّام الفعلييّن في المشاركة بالسياسة والثروة وصنع القرار وإنّما بكل بساطة ثقتهم بقوّتهم وقدرتهم على قمع المعارضة بسرعة دون رحمة أو تردّد إذا تجاسرت وتجاوزت في طلباتها حدوداً معيّنةً أو شكّلت تهديداً حقيقيّاً لامتيازاتهم من أي نوع. هناك بالطبع طفرات عبر التاريخ تطيح بالأنظمة الحاكمة بيد أنّ المسألة مسألة وقت قبل أن تحلّ نخبةٌ جديدةُ محلّ القديمة ونعود إلى نقطة البداية بغضّ النظر عن اللبوس والشعارات.
أترك الكلام إلى مطران (صفحة ٢٢٨ - ٢٢٩):
"حمى الله وطننا الحبيب من مجلس النوّاب ومجلس الشيوخ والانتخابات العامّة! حتّى الدول الأكثر تقدّماً والشعوب الأغنى إمكاناتٍ تضّل في متاهاتها أو تكاد. اعتمدنا هذا النظام في تركيّا مؤخّراً وذقنا مرارة التجربة (١) ولا ريب أنّ تكرارها سيؤدّي إلى نفس النتيجة. صدق من قال أنّ "المشرق يحتاج إلى طاغيةٍ عادلٍ كي يكون سعيداً" وتكلّمَ عن معرفةٍ بطبائعنا واحتياجاتنا. ليس بإمكاننا أن نوفّر لشعوبنا الطمأنينة الناجمة عن النظام ولا الازدهار الناتج عن العدالة بالجري وراء المثاليّات الخياليّة والمظاهر الفارغة والحريّات في غير محلّها. من المؤكّد أنّ الاستبداد مدعاةٌ للنفور من ناحية المبدأ بيد أنّ الطغم الحاكمة Oligarchie أسوأ بكثير خصوصاً في بلدٍ صغيرٍ كسوريّا يتنافس فيه الوصوليّون ممّن تعوّدوا على الانحناء تحت نير العاهل ليحصلوا على الامتيازات بأقصر طريقٍ ممكن. ستكون سوريّا تحت الحكم النيابي ميداناً للصراع بين المرشّحين يهمل سكّانها الأشغال المُنتجة في سبيل مماحكاتٍ سياسيّةٍ عقيمة، عوضاً عن تشكيل وحدةٍ وتركيز الجهود في العمل المنظّم، الوحيد الذي يمكن ترجمته إلى ثروة والذي يسمح للأمم بترف الأنظمة النيابيّة من الناحية العمليّة دون الحاجة إلى مخاطرةٍ يتعذّر تلافي عواقبها.
ليس لدى السورييّن ما يكفي من الوقت لإصلاح الشرور من مخلّفات الماضي الطويل والشقاء المادّي والمعنوي الذي رافقه. سوريّا بلدٌ تمتزج فيه الديانات والأعراق وسيؤدّي الحكم النيابي فيها إلى استبدال الأسلحة بالنشرات والبطاقات الاقتراعيّة واعتماد الوسائل الملتويّة الخبيثة على حساب الحقّ والخير.
كلّا يا إخوتي! ليس لنا أن نتمنّى نظاماً لا طائل تحته. فلنكرّس أنفسنا إلى استثمار أرضنا والتوسّع في تجارتنا وبناء صناعاتنا؛ فلتكن مهمّتنا زيادة ثروتنا الماديّة. لن يمنعنا الغنى من تهذيب أنفسنا بل يسمح لنا أن نتأمّل من بعيد نتائج الجلسات النيابيّة ونزاع النوّاب تحت ذريعة خدمة الوطن. خيرٌ وأولى أن نخدم بلادنا بالعمل الدؤوب الصامت والجهد الشخصي. تكمن الحكمة في التصويت على مرحلتين (٢) لانتخاب الموظّفين الإدارييّن بما يفي بضرورات الحكم".
سبق التعرّض أنّ "الطاغية العادل" في نظر مطران يتمثّل في مقيم Résident أو مندوب سامي فرنسي.
نرى في اللوحة المرفقة والي مصر محمّد علي باشا يستقبل وفداً من الزوّار الأوروپييّن في قصره في الإسكندريّة عام ١٨٣٩. لا مبالغة في القول أنّ محمّد علي باني مصر الحديثة وأنّه أحد أعلام "الاستبداد المستنير". مصدر اللوحة في الرابط أدناه.
(١) الإشارة إلى "تركيّا الفتاة" والإطاحة بالسلطان عبد الحميد.
(٢) يتمّ ذلك بانتخاب مفوّضين délégués عن طريق الاقتراع المباشر في المرحلة الأولى يقومون بدورهم بتسمية النوّاب في المرحلة الثانية كما في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
Nadra Muṭrān. La Syrie de demain (p 228 - 229).
The Holy Land, Syria, Idumea, Arabia, Egypt, & Nubia (illustration).
No comments:
Post a Comment