لا داعي للدخول في جدل عقيم وعديم الجدوى حول هويّة مصر فهذا أمر يخصّ المصرييّن وفقط المصرييّن. مع ذلك لا يمكن إنكار الدور الرائد الذي لعبه وادي النيل في نهضة العرب الفكريّة والثقافيّة والفنيّة. كانت مصر حتّى منتصف القرن العشرين أغنى الدول العربيّة وأكثرها تقدّماً على جميع الأصعدة وكانت قبلة المهاجرين والمبدعين والباحثين عن الفرص في الشرق الأدنى كما يشهد على ذلك جيلي الذي نشأ على الأدب المصري والموسيقى المصريّة والسينما المصريّة وكما يشهد أعلام من أبي خليل قبّاني إلى صباح وفريد الأطرش ممّن لمع وأنتج وتميّز في أرضها الخصبة المعطاءة.
يمكن القول أنّ العصور الوسطى انتهت والحديثة بدأت في مصر مع حملة بونابارت وصعود نجم محمّد علي ومن هنا أهميّة كتاب الفرنسي de Volney الذي عكس وضعها في نهاية القرن الثامن عشر عندما كانت محكومة عمليّاً من قبل المماليك واسميّاً العثمانييّن. لن أدخل في تفاصيل الصراع على السلطة فقصّة تمرّد (وليس "ثورة" كما يحلوا لبعض كتّاب التاريخ الرسمي في سوريا تسميته) علي بك الكبير وضاهر العمر والنزاع مع محمّد بك أبي الذهب معروفة ومطروقة. ما أثار اهتمامي هو وصف المؤلّف للأرض والناس وهو وصف -على علّاته- لا تتعرّض له أيّ من الكتب العربيّة التي عاصرت الأحداث على حدّ علمي والتي تقتصر على ذكر الكوارث والتراجم ومن شنّ حرباً على من وهلمّجرّا.
دخل Volney دمشق عن طريق الاسكندريّة التي اعتبرها خارج مصر وتنتمي إلى الصحراء اللهمّ إذا استثنينا القنال الذي يغذّيها من نهر النيل. الدخول الفعلي لمصر عن طريق رشيد Rosette التي اشتهرت عالميّاً بعد أن فكّ شامبوليون طلاسم حجرها وهي تقع في النهاية الشماليّة الغربيّة لما يسمّى دلتا النيل أمّا عن مياه هذا النهر الخالد فقد وصفها الراوية بأنّها عكرة خلال ستّة أشهر من السنة ويجب أن ترقد حتّى يمكن شربها وعندما ينخفض مستواها قبل الفيضان تصبح مخضرّة ونتنة ومليئة بالديدان. يلي ذلك وصف لوشائل تخزين المياه من الصهاريج إلى القوارير.
هناك أربعة أعراق أو أصناف من البشر في مصر:
أوّلاً: العرق العربي
يقسم هذا العرق إلى ثلاث فئات:
- الأولى تتحدّر من الفاتحين المسلمين الذين أتوا مع عمرو ابن العاص وأصبحوا بالنتيجة فلّاحين وحرفييّن. يبلغ متوسّط طولهم ١٦٢ سم وهم سمر البشرة أقوياء البنية.
-الثانية تتألّف من المغاربة وهم أكثر تواجداً في الصعيد.
- الثالثة مكوّنة من البدو.
ثانياً: العرق القبطي
يكثرون في الصعيد ويتحدّرون من المصرييّن القدماء قبل الإسلام وهم هجين بين هؤلاء وبين العناصر الإيرانيّة والإغريقيّة. ديانتهم المسيحيّة ويتبعون مذهب Eutychès (٣٧٨-٤٥٦ للميلاد: كاهن نادى بطبيعة المسيح الواحدة). خصائصهم العنصريّة أشبه ما تكون بالزنوج المخلّطين من ناحية شكل الأنف والعيون والشفاه وهنا يضيف الكاتب أنّه بعد التمعّن في أبي الهول، وجده زنجي الملامح وأنّ Herodotus (قرن خامس قبل الميلاد) وصف المصرييّن بسواد البشرة والشعر الأجعد الكثيف. هنا يضيف Volney أنّ مثال الأقباط يدحض الزعم القائل أنّ السود أقلّ ذكاءً من البيض. يعمل الأقباط ككتّاب وأمناء ووكلاء مكروهين من قبل الفلّاحين ومحتقرين من قبل الأتراك.
ثالثاً: العرق التركي
وهم أسياد مصر على الأقلّ نظريّاً وأتوا بالأصل من شمال بحر قزوين حتّى بحيرة آرال في آسيا أي تركستان وأطلق عليهم الإغريقيّون القدماء عدّة أسماء منها البارثييّن والسكوثييّن Scythes ودعاهم الأوروبيّون بالتتار. يلي ذلك تاريخ تغلغلهم في الإمبراطوريّة الإسلاميّة من المعتصم حتّى العثمانييّن. أتراك مصر يتمركزون في القاهرة وهم إمّا رجال دين وإمّا عسكر.
ثالثاً: العرق المملوكي
أصولهم من القفقاس واحتكّ معهم الصليبيّون في القرن الثالث عشر. تمكّنوا في القرن الثامن عشر من الاستيلاء على مقاليد السلطة الفعليّة من الأتراك (أي العثمانييّن).
لا تختلط هذه الأعراق مع بعضها أبداً ولا تجمعها مصالح مشتركة ولم تنجح أرض مصر في صهر هذه المجموعات المتباينة في بوتقتها.
للحديث بقيّة.