نشرت مجلّة الفنون الإسلاميّة أربع مقالات مطوّلة باللغة الإنجليزيّة بعنوان "دمشق: دراسات في هندسة العمارة" بين الأعوام ١٩٤٢ و ١٩٤٨ كتبها المستشرق الألماني Ernst Herzfeld. ركّزت هذه المقالات على دمشق وقام المؤلّف في بعضها بإجراء مقارنات مستفيضة بين أوابد الشام ومثيلاتها في البلدان المجاورة خصوصاً الرافدين وإيران مع عناية خاصّة بالنواحي الفنيّة وأصولها.
كانت هذه الأبحاث ولا زالت مرجعاً استهدى به الكثيرون من الأخصّائييّن والهواة في الشرق والغرب مع التحفّظ بوجود بعض الهنات وهذا لا مفرّ منه في كثير من الدراسات الواسعة الشمول خصوصاً عندما يقوم بها إنسان واحد كائناً ما كانت درجة علمه ومثابرته واطّلاعه.
قرّظ الفرنسي Jean Sauvaget أبحاث المستشرق الألماني وأشار في نفس الوقت إلى الأخطاء التي وجدها فيها في مقالين نشرهما في في مجلّة Syria الأوّل عام ١٩٤٤ والثاني ١٩٤٦ ولا يوجد على علمي ما يشير إلى أنّه راجع مقال Herzfeld الرابع عام ١٩٤٨. لربّما بالغ Sauvaget في انتقاده خصوصاً فيما يتعلّق بالطريقة التي نقل فيها Herzfeld الأسماء العربيّة للأحرف اللاتينيّة transliteration. في كلّ الأحوال أقتصر هنا على مثال واحد وهو باب البيماريستان النوري الذي ارتأى Herzfeld أنّه ينتمي لمدارس الفنّ الحلبيّة شأنه في ذلك شأن منبر المسجد الأقصى في القدس. فيما يلي تعريب لما كتبه Sauvaget في هذا الصدد:
يزّودنا إبن أبي أصيبعة هنا بدلائل هامّة للغاية إذ كتب في ترجمته لطبيب في البيمارستان في عهد نور الدين يدعى مؤيّد الدين الحارثي (توفّي ٥٩٩ للهجرة الموافق ١٢٠٢ للميلاد) ما يلي:
هو مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن عبد الكريم ابن عبد الأمن الحارثي، مولده ومنشؤه بدمشق، وكان يعرف بالمهندس لجودة معرفته بالهندسة وشهرته بها قبل أن يتحلّى بمعرفة صناعة الطب، وكان في أول أمره نجّاراً وينحت الحجارة أيضاً، وكان تكسّبه بصناعة النجارة، وله يد طولى فيها، والناس كثيراً ما يرغبون إلى أعماله، وأكثر أبواب البيمارستان الكبيرة الذي أنشأه الملك العادل نور الدين ابن زنكي رحمه اللَّه من نجارته وصنعته أخبرني سديد الدين بن رقيقة (طبيب) عنه أنه أخبره بذلك، وحدثني شمس الدين بن المطواع الكحّال عنه، وكان صديقاً له أن أول اشتغاله بالعلم أنه قصد إلى أن يتعلّم إقليدس ليزداد في صناعة النجارة جودة ويطّلع على دقائقها ويتصرف في أعمالها، قال وكان في تلك الأيام يعمل في مسجد خاتون الذي تحت المنيبع غربي دمشق، فكان في كل غداة لا يصل إلى ذلك الموضع إلا وقد حفظ شيئاً من إقليدس، ويحلّ أيضاً منه في طريقه، وعند فراغه من العمل، إلى أن حلّ كتاب إقليدس بأسره، وفهمه فهماً جيداً وقوي فيه، ثم نظر إيضاً في كتاب المجسطي (Almagest لبطليموس)، وشرع في قراءته وحلّه، وانصرف بكليّته إلى صناعة الهندسة وعرف بها.
استنتج Sauvaget من رواية ابن أبي أصيبعة أنّه لا لزوم للبحث عن تأثير الفنّ الحلبي في باب البيمارستان النوري حتّى لو لم تكن مصاريع الباب من شغل الحارثي.
أترك للقارىء مهمّة قبول أو رفض تحليل Sauvaget.
ابن أبي أصيبعة. عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء ٦١٧-٦١٨
No comments:
Post a Comment