تعرّض عالم الآثار المهندس الفرنسي Gérard Degeorge إلى انعكاسات خطّة الخبير العمراني Michel Écochard من جهة، والأحداث الدامية التي تعرّضت لها سوريّا في أواخر سبعينات ومطلع ثمانينات القرن الماضي من جهة ثانية، على نسيج دمشق التاريخي. من الواضح أنّ الكاتب له آراء سياسيّة معيّنة وليس من الضروري أن نوافقه عليها بالكليّة ولكن للإنصاف من الصعب -إ ن لم يكن من المستحيل - فصل السياسة عن التاريخ والعمارة في هذه الحالة بالذات. أضف إلى ذلك أنّ Degeorge مخطئاً كان أم مصيباً، يتكلّم من منطلق اهتمامه بالشام وشغفه بعراقتها وحضارتها. أنقل فيما يلي تعريبي لما كتبه كما هو مع التعليق والتصحيح في الحواشي حسب الحاجة. اقتبست النصّ الأصلي في منشور مستقلّ لمن يريد المقارنة.
انتاب "اعتلال هوسماني (١) حادّ" السلطات السوريّة عام ١٩٨٣ وكان ذلك في أعقاب الحمّى الإسلاميّة والتدمير الممنهج لمدينة حماة القديمة (٢) عندما شنّت الحكومة حملتها علناً على نسيج دمشق العمراني القديم بالرغم من موقف اليونسكو ومختلف اللجان المختصّة.
باشر الهادمون مهمّتهم بسرعة غير مألوفة دون أن أن يجشّموا أنفسهم عناء مراجعة اللجنة الحكوميّة أو استشارة أعضائها الموقّرين الذين فقدوا ملكة الكلام بغتةً. كشفت القلعة وهدم سوق الخجا الذي بني على خندقها الغربي عام ١٩٠٥-١٩٠٦ (٣) وهدمت بيوت ملاصقة لجدار القلعة الشمالي كما نقض قسم من سوق العصرونيّة المختصّ في مواد البناء (٤).
شقّ طريق من السنجقدار إلى باب البريد وكان الهدف المعلن (٥) السهر على أمن المسؤولين الحكومييّن عندما يقصدون الجامع الكبير للوضوء (٦) وتسهيل دخول العربات العسكريّة. بقرت البلدوزرات بطون البيوت دون الحدّ الأدنى من المراعاة لمخطّط السجلّ العقاري ودمّرت سوق الكتب (٧) وسوق العطرييّن والعديد من المنازل بغية استحداث ساحة صغيرة فيها بحرات مع نوافير للمياه وأجهزة إنارة ومقاعد صغيرة أمام المدخل الغربي للأموي. كشف الجدار الجنوبي للجامع أيضاً مع بوّابة المعبد الروماني الداخلي. أضف إلى ذلك هدم عدّة دور في شارع الحمرواي في سبيل إنشاء "سوق سياحي" في المنطقة.
أعلنت النيّة لإجراء المزيد من أعمال الهدم بذريعة عدم موائمة المنشآت المحكوم عليها من الناحية الصحيّة وبهدف تجميل المدينة وأصبح احتمال تنفيذ خطّة إيكوشار بحذافيرها وارداً مع الخطر الذي يتضمّنه هذا المشروع على دمشق بيد أنّ احتجاجات اليونسكو واعتراضات العموم أدّت في النهاية إلى تراجع أصحاب القرار وعلى إثر ذلك استيقظت مصلحة الآثار من الخدر الذي اعتراها وبادرت بسدّ ثغرات الواجهات المشوّهة وتكليسها.
شهدت هذه الأعوام الأخيرة أيضاً بناء جامع حديث غير منسجم مع النسيج العمراني حول الضريح الشيعي للستّ رقيّة شمال الجامع الأموي وتطلّب ذلك هدم عشرة منازل ممّا يخالف الأنظمة المتعلّقة بالمدينة الأثريّة.
(١) نسبة إلى الفرنسي Georges Eugène Haussmann الذي خطّط باريس في عهد نابوليون الثالث.
(٢) ما جرى في حماة عام ١٩٨٢ كان مأساة ذهب ضحيّتها الآلاف من الأبرياء ولكن القول بأنّها دمّرت بشكل ممنهج مبالغ فيه ولا يأخذ بعين الاعتبار خلفيّات الصراع على السلطة وقتها على المستويين المحلّي والإقليمي على أقلّ تقدير. واجهت الرئيس حافظ الأسد وقتها خيارات بشعة واضطّر إلى اللجوء إلى ما اعتقده أقلّها شناعةً ولربّما أكثرها حقناً للدماء وليس هذا للتقليل من حجم التجاوزات أو التهوين على من فقد أحبّته وماله إن لم بفقد حياته.
(٣) أعتقد أنّ هدم سوق الخجا بالذات كان خطوةً في الاتّجاه السليم. القلعة أهمّ وأعرق وأكثر مهابةً من هذا السوق بما لا يقاس وعلى جميع الأصعدة. السؤال هنا عن الطريقة التي جرى بها التعويض على التجّار والبدائل التي طرحت ولا أملك هنا جواباً شافياً.
(٤) سوق العصرونيّة ليس مختصّاً بمواد البناء بل بالأحرى الأدوات المزليّة.
(٥) أنا عشت هذه الأحداث ولا أذكر تصريحاً لأي مسؤول مفاده أنّ الهدف من شقّ طريق من السنجقدار حماية المسؤولين في طريقهم إلى الصلاة أو تسهيل مرور الآليّات العسكريّة. حتّى لو سلّمنا جدلاً بأنّ الهدف كان فعلاً كذلك (حالة المحلّق الجنوبي أكثر انسجاماً مع تبرير من هذا النوع) فمن الغباء المجاهرة به. في كلّ الأحوال شقّ الطرقات لأهداف عسكريّة لم يبدأ في عهد الاستقلال في سوريّا (أحد عوامل شقّ شارع بغداد قبل حوالي المائة عام مثلاً كان عزل ثوّار الغوطة عن المدينة وتسهيل مرور العربات الفرنسيّة الحربيّة) وليس مقصوراً عليها: نفس المنطق اعتمده الألمان والروس وغيرهم اعتباراً من النصف الأوّل للقرن العشرين ولربّما قبل.
(٦) الصلاة وليس فقط الوضوء.
(٧) المسكيّة.
الصورة الملحقة عن العلبي.
No comments:
Post a Comment