Monday, March 7, 2022

بين تسامح الغرب واستبداد الشرق


تصنّف دول العالم من الناحية السياسيّة كما يلي:


- ديمقراطيّةٍ (حرّة أو دستوريّة أو برلمانيّة أو انتخابيّة ...): أوروبّا وأمريكا الشماليّة واليابان وأستراليا ونيوزيلندا ولربّما الهند. بعبارة ثانية ما يطلق عليه اليوم اسم "المجتمع الدولي" أو Internatinonal Community. 

- ديكتاتوريّة (شموليّة أو استبداديّة أو سلطويّة أو طغيانيّة ...): روسيا والصين وإفريقيا والشرق الأدنى وعدد من دول أمريكا اللاتينيّة وتسمّى بعض هذه الدول أحياناً Rogue States أو الدول المارقة.  


يؤمن معظم الناس بغضّ النظر عن انتمائهم إلى هذه الفئة أو تلك بأنّ المقيم أو المواطن في الدول الأولى "الغربيّة" لديه ملء الحقّ في التفوّه بما يحلو له دون رقيب أو حسيب. حرّيّة الرأي والتعبير وانتقاد السلطة في الغرب إذاً مطلقة ولا رقابة عليها "إلّا رقابة الضمير".  


ما مدى دقّة هذا الكلام؟ 


لا جدال أنّ هامش الحريّة الشخصيّة أوسع بكثير في "الغرب" منه في "الشرق" ولكن هذا لا يعتي بالضرورة أنّ حريّة التعبير في الدول "الديموقراطيّة" مطلقة: صحيح أنّك تستطيع أن تقول ما شئت عمليّاً دون أن تخشى على حياتك أو حريّتك ومع ذلك هناك الكثير ممّا لا تستطيع نطقه جهاراً إذا أردت الحفاظ على سمعتك وعملك ومورد رزقك. قد يقول البعض أنّك تستطيع انتقاد أي إنسان في الغرب مهما علت مكانته وهذا أيضاً صحيح ولكن هنا يحسن أن نفرّق بين المنفّذين (الرؤساء والوزراء) وصانعيّ القرار الحقيقييّن (الشركات الكبرى والمؤسّسات) وهؤلاء وإن جاز انتقادهم كأفراد يبقى انتقاد سياساتهم من المحظورات. بعبارة ثانية لا يجوز الخلط بين الحاكم الشرقي والحاكم الغربي وما أبعد البون بين صلاحيات هذا وذاك. 


تسمح دول الغرب بالمعارضة (الحقيقيّة وليس الصوريّة) طالما كانت مهمّشة تقتصر معرفتها على بعض الدوائر الضيّقة وكثير هم المرشّحون الذين لا يدري أحد بهم: الحملات الانتخابيّة تتطلّب مبالغ طائلةً والمموّلون يتوقّعون من المرشّح خدماتٍ جلّى لقاء هداياهم وهباتهم وليس ثمّة أسهل من توجيه  الأغلبيّة الساحقة من الناخبين في اتّجاه معيّن عن طريق الدعاية والمزاودات والشعوذات الشعبويّة. 


رغم كلّ هذه التحفّظات لا بدّ من الإقرار أنّ الأنظمة السياسيّة "الغربيّة" أكثر تسامحاً من "الشرقيّة" فما السبب؟ في زعمي أنّ الموضوع يتعلّق بالدرجة الأولى بتفاوت القوّة بين المجموعتين. كلّما زادت قوّة الدولة كلّما كانت أقدر على استيعاب حدّ أدنى من النقد. الضعيف بالمقابل لا يتحمّل ترفاً كهذا وإذا حاول فقد تكون النتيجة انفراط عقد الدولة وخروج النزعات الإقليميّة والعشائريّة والطائفيّة والعنصريّة من القمقم وأخذ الناس بتلابيب بعضهم بعضاً وضياع الأمن والاستقرار إلى غير عودة (حتّى الاتّحاد السوفييتي الجبّار أفلت زمام الأمور من يديه خلال فترة قياسيّة في قصرها باتّباع طريق أقرب إلى المقامرة منه إلى منهج مدروس). 


من السهل على الدولة عندما تكون منيعة وغنيّة أن تسمح بمظاهرةٍ ضدّها هنا أو هناك في أوقات السلم أمّا إبّان الحرب الشاملة فالوضع مختلف تماماً تتساوى فيه "الديموقراطيّات" و"الديكتاتوريّات" في استبدادها وأعطي هنا بعض الأمثلة:  


- الحكم بالسجن على الملاكم الأمريكي محمّد علي عندما رفض الانخراط في الجيش أثناء حرب فيتنام. للإنصاف العقوبة طفيفة والسبب بكل بساطة أنّ أمن الولايات المتّحدة لم يكن مهدّداً على الإطلاق في معارك جرت على بعد آلاف الكيلومرات منها.

- احتجاز المواطنين الأمريكييّن من أصول يابانيّة في معسكرات اعتقال خلال الحرب العالميّة الثانية بشبهة - دون أي دليل - الولاء المزدوج. يعود تعليل - وليس تبرير - هذا الإجراء التعسّفي الجماعي إلى كون التهديد الياباني أكبر بكثير من الفيتنامي ومع ذلك بقيت الولايات المتّحدة بعيدة للغاية عن مسرح العمليّات ولم تسقط على أرضها قنبلة واحدة. 

- إذا نظرنا إلى إحدى الدول "الديموقراطيّة" الأوروبيّة خلال الحرب العالميّة الأولى - فرنسا - نرى أنّها نفّذت العديد من الأحكام بالإعدام على جنودٍ رفضو المخاطرة بحياتهم في مذابح الجبهة الغربيّة. مسوّغ العقوبة القصوى هنا أنّ فرنسا كانت تخوض صراعاً وجوديّاً وقتها لا مجال فيه للسماح "بحريّة الرأي" لا كثيراً ولا قليلاً. بالطبع فعلت ألمانيا وروسيا الشيء نفسه وكذلك جمال باشا عندما علّق المشانق في ساحة المرجة.  


الخلاصة ليس هناك إنسان فوق النقد في الدول الغربيّة أمّا السياسات التي يجمع عليها أصحاب السلطة الحقيقيّة فلها شأن آخر. استعاض الغرب عن عبادة الفرد بعبادة المؤسّسات. 




مصدر الصورة


  




No comments:

Post a Comment