يمكن تفسير السمات الأكثر تأصّلاً لشعب الغاب من خلال تاريخه. أكره انعدام الأمن التامّ حتّى منتصف القرن التاسع عشر السكّان المستقرّين على الفرار من السهول الواطئة إلى المواقع الدفاعيّة على حافّة الهضبة ودفع ملّاك الأراضي الحموييّن إلى اكتراء العمالة البدويّة بغية استثمار أراضيهم. يمكن فهم نقل التجمّعات البشريّة ونشأة قرى المستنقعات الأولى عبر السياسات والتدابير الإداريّة للولاة العثمانيّين. أدّى استتباب الأمن الذي لاحت بوادره تحت النظام الحميدي وأنجز في عهد الانتداب الفرنسي إلى زوال العوامل التي دفعت النصيرييّن للغزو وبالتالي إلى هبوطهم من الجبال للاستقرار في السهل.
تبرّر الدراسة التاريخيّة أيضاً التوزيع الديني إذ تجمّع المسيحيّون والسنّة في مواقع مستقلّة واستأثر السنّة خصوصاً بالقلاع (يقصد Thoumin شيزر وقلعة المضيق بالطبع). استقرّت عائلات نصيريّة على ضفّة العاصي الشماليّة وندر منها من استوطن الضفّة اليمنى وعلى ما يبدو اعتبر النصيريّون الحياة شرق النهر بمثابة المنفى.
هذا عن عوامل توزّع هذه الفئات أمّا عن نمط وجودهم فيتعلّق بالأحرى بالجغرافيا إذ تتحكّم البيئة بحياة أهل الريف. استفادت القرى الواقعة على حافّة الهضبة من موارد الأراضي المرتفعة والمنخفضة في آنٍ واحد بينما حدّدت المستنقعات- بالإمكانيّات التي قدّمتها والضرورات التي فرضتها - الحياة الاقتصاديّة للرعاة وصيّاديّ السمك قرب منابت القصب حتّى أدقّ تفاصيلها. يفسّر الفقر المدقع لسكّان السفوح الشرقيّة لجبال الأنصاريّة رحيل أهلها صوب السهول ويسوّغ اختلاق هذه القرى الحزينة المتشبّثة بطميّ العاصي.
لربّما أكّد البيت نفسه أهميّة العرى التي تربط الإنسان بمحيطه البيئي وعلى سبيل المثال تختلف بيوت محردة المقبيّة تحت مستوى الأرض عن مكعّبات دور السقيلبيّة اختلافاً جذريّاً وما أبعد البون بين هذه الأخيرة وبين الأكواخ البيضويّة في القرى البحيريّة.
تتّحد العوامل الجغرافيّة والتاريخيّة إذاً لتساعدنا على فهم الشعوب التي تقطن الغاب اليوم وتحيا على موارده من الزراعة وتربية الحيوان وصيد السمك وتطبع هذا الإقليم بدمغة أصيلةٍ متميّزة مقارنةً مع المقاطعات المجاورة. هذه الأصالة ناجمة ليس فقط عن بنية هذه المنطقة الغائرة وإنّما أيضاً عن فسيفسائها البشريّة.
هناك اليوم (أي عندما كتب المؤلّف عام ١٩٣٦) مشروع لتوطين اللاجئين الكلدان - الآشورييّن إلى سوريّا على إثر مجازر ١٩٣٣ في سهل الغاب.
أختم بهذا المنشور تعريب مقتطفات من مقال مطوّل للجغرافي الفرنسي Thoumin عن إقليم الغاب علّه كان أفضل الموجود حتّى ثلاثينات القرن الماضي. الصورتان الملحقتان عن دراسة Weulersse عام ١٩٤٦ يظهر في أولاهما قرويّون علويّون وفي الثانية أحد المزارات في جبال العلوييّن.
Richard Lodoïs Thoumin. Le Ghab. Revue de Géographie Alpine 1936 pp. 467- 538
Jacques Weulersse. Paysans de Syrie et du Proche-Orient (photos)
No comments:
Post a Comment