Saturday, December 4, 2021

روسيا والجنرال شتاء بين ١٨١٢ و ١٩٤١


قرأت تعبير "الجنرال شتاء" للمرّة الأولى في أحد أعداد النسخة العربيّة للحرب الجديدة المصوّرة War Illustrated الصادر صيف ١٩٤١. كان هذا في سياق هجوم الألمان على روسيا حين تساءل المحرّر - والكثيرون من الساسة والمحلّلين في مختلف أنحاء العالم - عن إمكانيّة صمود الروس في وجه آلة الحرب النازيّة حتّى حلول الشتاء الروسي القارس الذي سيكسر ظهر المعتدين وينقذ البلاد والعباد . بعبارة ثانية: هل سيأتي "الجنرال شتاء" في الوقت المناسب لإنقاذ موسكو؟  


هل كان انتصار ألمانيا محتوماً أو حتّى محتملاً لولا "الجنرال شتاء"؟ يحسن هنا الرجوع إلى مطلع العقد الثاني من القرن التاسع عشر وتحديداً الرابع والعشرين من حزيران عام ١٨١٢ عندما باشر نابوليون حملته الروسيّة المشؤومة على رأس "الجيش الكبير" أو بالأحرى "الجيش العظيم" la Grande Armée الذي قدّر عدده بحوالي نصف مليون رجل ولربّما كان أكبر جيش شهده العالم حتّى ذلك الحين. هناك خطأ شائع مفاده أنّ الشتاء الروسي كان له الباع الأطول في هزيمة الفرنسييّن وعلّ قصيدة Victor Hugo الشهيرة ساهمت في نشر هذه الأسطورة بيد أنّ الحقائق كانت مغايرة كما سنرى.  


قطعت جيوش الإمبراطور الفرنسي السهول الروسيّة بسرعة مدهشة دون مقاومة تذكر وكان مبعث هذا اتّباع الروس - عوضاً عن التصدّي له - سياسة "الأرض المحروقة" الهادفة إلى منع العدوّ من الاستفادة من موارد الأرض لإطعام جيشه ودوابّه. مع ذلك نجح نابوليون بالنتيجة في جرّ الجيش الروسي إلى القتال في معركة Borodino (أو Moskova كما أسماها الفرنسيّون) في السابع من أيلول أحرز فيها نصراً أشبه بالهزيمة خسر فيه عشرات الألوف من جنوده وإن تمكّن بعدها من دخول موسكو في الرابع عشر من نفس الشهر. بعمليّة حسابية بسيطة نرى أنّ الفرنسييّن نجحوا في أخذ موسكو بعد أقلّ من ثلاثة أشهر من بداية حملتهم! 


خاب أمل بونابارت عندما اكتشف أنّ "حساب السرايا ما وافق حساب الغرايا". كان يتوقّع أن يأتيه قيصر روسيا صاغراً بعد احتلال موسكو ويساومه على صلح يليق بالنصر المبين الذي أحرزه وفوجىء عندما لم يتنازل ألكساندر الأوّل بالردّ على رسائله. تهيّب الغازي من الانتظار أكثر ممّا ينبغي في موسكو وتركها مع ما تبقّى من جيشه بعد إقامة لم تتجاوز الخمسة أسابيع وسلك طريق العودة بسرعة لا تقلّ عن السرعة التي دخل فيها ليغادر آخر جندي فرنسي أراضي روسيا في الرابع عشر من كانون أوّل. 


إذاً بدأت حملة نابوليون في مطلع الصيف وانتهت في أواخر الخريف ولا علاقة للشتاء بهزيمته لا من قريب ولا من بعيد!


نأتي الآن إلى هتلر والجيش الألماني الجبار الذي انتصر على فرنسا خلال أسابيع عام ١٩٤٠ باستعمال تكتيكات "الحرب الصاعقة" أو "الخاطفة" Blitzkrieg. اعتقدت القيادة النازيّة أنّ هزيمة روسيا بنفس الأسلوب ممكنة وهكذا شنّت هجوماً قوامه ملايين الرجال وآلاف المدرّعات والطائرات بداية من الثاني والعشرين من حزيران عام ١٩٤١. أهرق الكثير من الحبر عن انتصاراتهم التي لم يسبق لها مثيل في روسيا في بداية الحملة وكيف هزمهم الشتاء بالنتيجة ولكنّ الأرقام - مجدّداً - تثبت بطلان هذا الزعم. ليس ذلك فحسب بل أنّهم كانوا أبطأ من جيش نابوليون العظيم رغم تطوّر تقنيّة - ولا أقول فنّ - الحرب خلال مائة وثلاثين عاماً! البرهان؟ وصل الألمان إلى مسافة ٣٠ كيلومتراً من الكرملين - أقصى تقدّم لهم - في الثاني من كانون أوّل واضطرّوا بعدها إلى التراجع تحت ضربات الروس (بالمقارنة دخل الفرنسيّون المدينة قيبل منتصف أيلول). باختصار تقرّر مصير الهجوم الألماني أيضاً قبل مجيء "الجنرال شتاء" وفي كلّ الأحوال إن دلّت السابقة الفرنسيّة على شيء فهي تدلّ أنّ احتلال موسكو ما كان له بالضرورة أن يحسم الحرب لصالح الألمان. 


السبب في البطء النسبي للزحف الألماني مقارنة مع الفرنسي الضراوة غير المتوقّعة الني دافع بها الروس عن بلادهم منذ البداية (مقارنةً مع انسحاب جيوش القيصر آلاف الكيلومترات حتّى بورودينو) أمّا عن طول خطوط المعتدين أو العوامل اللوجستيّة (إمداد وتموين) فلم تنجح التكنولوجيا الألمانيّة المتقدمة في معالجتها الشيء الكثير. أخيراً "الجنرال شتاء" المزعوم - بفرض أنّه لعب الدور المأمول - لا يفرّق بين العدوّ والصديق.  


كثيراً ما تتعلّق نتائج الحروب "ربحاً" كانت أم خسارةً بقرارات الساسة وهؤلاء عادةً -مهما علت منزلتهم - بشر كسائر البشر لهم عثراتهم وكبواتهم ويقول المثل "كلّما علت القامة كلّما اشتدّ السقوط" أو the bigger they are, the harder they fall. قد يربح التكتيك معاركاً أمّا الحروب فتقرّر بالاستراتيجيّة والرابح الأكبر فيها عادة تجّار الأسلحة وأشباههم من منتفعيّ القتل والدمار. المعني هنا حروب الأنداد وأشباه الأنداد وليس عدوان القوى العظمى على دول ضعيفة لسرقة مواردها دون خوف من العواقب. 


كان التفاهم مع روسيا خيراً وأبقى لباريس وبرلين. مهما رفع الروس أسعار الحنطة والنفط التي باعوها لألمانيا تبقى كلفتها أرخص من الحرب - حتّى في حالة النصر - بما لا يقاس. 


اللوحة أعلاه لنابوليون يقود "الجيش العظيم" والصورة لغلاف مجلّة War Illustrated (عدد ٢٠ تشرين أوّل عام ١٩٤١) ونرى أسرى ألمان في حراسة جنود سوفييت. 





 


Jacques R. Pauwels. How General Winter Did Not Save the Soviet Union in 1941. 


No comments:

Post a Comment