Friday, September 23, 2022

بين التعريب والتتريك


يعدّ تعريب الدواوين بدايةً من أواخر القرن السابع للميلاد من مآثر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بينما تعتبر محاولة تتريك بلاد الشام من قبل جماعة الاتّحاد والترقّي ونركيّا الفتاة في أواخر العهد العثماني من المظالم التي ارتكبها العثمانيّون بحقّ العرب ودليلاً إضافيّاً دامغاً على استبدادهم وطغيانهم. هكذا على الأقلّ تعلّمت في المدارس السوريّة قبل نصف قرن مع كثيرين غيري من الشابّات والشبّان. 


لم هذا التمييز؟ هل كانت سوريّا عربيّة اللسان أو الانتماء في القرن السابع وأتى خالد وأبو عبيدة لتحريرها من بيزنطة بينما أتى الأتراك - من السلاجقة إلى العثمانييّن - لاستعمارها؟ بدأ الأمويّون عمليّة التعريب خلال أقلّ من مائة عام من الفتح الإسلامي بينما بدأ التتريك - إذا قبلنا الرواية العربيّة المعاصرة بحذافيرها - بعد أربعمائة عام من الفتح العثماني - أي بعد صبر أيّوب - في وقت كانت فيه النخبة السوريّة تتكلّم التركيّة بطلاقة واستمرّت كذلك إلى أن مات الجيل الذي عاصر السفر برلك وما قبلها وما بعدها. خالد العظم وشكري القوّتلي - ناهيك عن ذويهما - كانا يتكلّمان التركيّة تماماً كما نطق محمّد علي العابد وجميل مردم بك وكوليت خوري بالفرنسيّة بعدهما وكما تتحدث نخبة اليوم بالإنجليزيّة وكلّ هؤلاء تعلّموا هذه اللغات دون إكراه من السلطات الحاكمة لا تحت العثمانييّن خلال مئات من السنوات ولا في زمن الانتداب الفرنسي الذي لم يتجاوز ربع القرن.  


هل تعرضت اللغة العربيّة لأي تهديد مهما كان واهياً في العهد العثماني؟ لا يزال الأتراك إلى اليوم يصلّون باللغة العربيّة - بعد قرابة مائة عام من إجراءات أتاتورك - كما يفعل المسلمون في كافّة أنحاء العالم مهما كانت لغتهم. أذكر أنّني دعيت قبل حوالي الثلاثين عاماً إلى حفل زفاف إسلامي هندي ألقى فيه الشيخ الذي تولّى عقد القران خطبةً بلغة عربيّة فصيحة لا شائبة فيها. حاولت بعد انتهاء المراسم أن أتحدّث معه بالعربيّة بيد أنّي اكتشفت على التوّ أنّه لا يستطيع التحدّث بها على الإطلاق ولا يفهم منها شيئاً - باستثناء بعض النصوص الدينيّة التي حفظها - وانتهى بي الأمر إلى الكلام معه بالإنجليزيّة. 


القرآن عربي بما يشبه الإجماع ونقله إلى أي لغة لا يعتير قرآناً بل ترجمةً للقرآن، والصلاة بالعربيّة حصراً. بالمقارنة ترجم الكتاب المقدس من النصوص الأصليّة العبريّة والآراميّة واليونانيّة على مرّ العصور (الترجمة السبعينيّة أو Septuagint واللاتينيّة Vulgate والإنجليزيّة الكلاسيكيّة King James وصولاً إلى العربيّة). ترجمت هذه العبارة بالذات إلى كافّة اللغات الحيّة أو كادت "لأنّه هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة" (يوحنّا الآية السادسة عشرة من الإصحاح الثالث). يستطيع المسيحي إذاً - عكس المسلم - أن يصلّي بأي لغة ونتيجة لذلك أصبحت اللغات اليونانيّة القديمة واللاتينيّة والعبريّة (حتّى الانتداب البريطاني في القرن العشرين) لغات اقتصر فهمها وتداولها على أقليّات أكاديميّة بالدرجة الأولى أمّا العربيّة فلا تزال حيّةً سواءً بشكلها التقليدي (القرآن المنسوب للهجة قريش) من خلال الطقوس الدينيّة، أو الرسمي المعاصر (نشرات الأخبار والصحافة والأدب) يفهمها الكلّ من المحيط إلى الخليج مهما اختلفت اللهجات العاميّة وما أبعد اختلافها من العراق إلى المغرب!       


الخطاب الذي يمجّد تعريب عبد الملك ويدين محاولة أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا المزعومة في التتريك لا يتعدّى النظر إلى الماضي بعين الحاضر ومن خلال مفاهيم مستحدثة لم يعرفها أو يتبنّاها أجدادنا لا في مطلع القرن العشرين ولا في القرن السابع للميلاد. هل لمن يدين التتريك أن يدلي برأيه عن حالة الأكراد والأرمن وغيرهم من الأقليّات الإثنيّة في العهد العروبي؟ هل الأرمني والكردي والتركماني والشركسي عرب؟ لا أملك الإجابة على هذا السؤال ويتلخصّ رأيي هنا أنّ لكل إنسان الحقّ في تحديد هويّته وانتماءه.   


ختاماً ولإزالة أي التباس العربيّة لغتي الأمّ التي أحبّها إلى درجة الهيام وإن وجب التنويه أنّ وظيفة أي لغة نفعيّة بالدرجة الأولى لتسهيل تفاهم وتواصل الناس واكتساب المدارك الضروريّة في معترك الحياة.  


الصورة الملحقة من مفدّمة كتاب "آثار قديمة من سوريّا وفلسطين وغرب عربستان" وهي ممهورة بتوقيع أحمد جمال باشا في تشرين أوّل عام ١٩١٥

No comments:

Post a Comment