Tuesday, October 3, 2023

ماري معمرباشي



أدين للصديق الغالي جاد موصلّي بتعريفي على كتاب "غربان حلب" الصادر عام ١٩٨٨ باللغة الفرنسيّة. تروي المؤلّفة خلال ١٩٠ صفحة قصّة اختطاف زوجها Michel Seurat في الثاني والعشرين من أيّار مايو ١٩٨٥ في بيروت إلى أن تحقّقت من موته في العام التالي بعد عدّة أشهر من الشكّ والعذاب والمحاولات اليائسة لإطلاق سراحه بشتّى السبل. 


مات Seurat قبل نهاية ١٩٨٥ ولا أنوي اليوم الخوض في هذه المأساة التي تعرّضت لها باختصار سابقاً. كان الرجل أكاديميّاً ولكنّه ركّز أبحاثه على السياسة واكتسب بالتالي الكثير من الأعداء. أضف إلى ذلك أنّه هام بالقضايا العربيّة والفلسطينيّة وتعاطف معها وحاول دراستها على أرض الواقع في سوريّا ومن ثمّ لبنان في خضمّ "الحرب الأهليّة". اعتاد Seurat على الحياة في ظلّ القنص والقصف ولا ريب أنّه غامر أكثر ممّا ينبغي ودفع حياته ثمناً لذلك. خسارةٌ كبيرةٌ للعلم والإنسانيّة ولكن هذا ليس موضوع اليوم.


ولدت السيّدة ماري معمرباشي لإحدى عائلات حلب الإرستقراطيّة عام ١٩٤٩. عمل أبوها جورج بالقطن وكان عصاميّاً جمع ثروةً في عهد الانتداب وبنى مدينة تلّ تمر للّاجئين الآشورييّن من العراق عام ١٩٣٣ (ص ١٥٥) وشارك مع ألبير عريس في بناء جسر دير الزور (ص ١٦٦). أصل جورج معمرباشي من ماردين التي نزح عنها مع أمّه وإخوته الستّة (ص ١٤٣) عام ١٩١٥ فراراً من حرب إبادة شنّها شخص يدعى "ممدوح بك" ضدّ مسيحيّي المدينة. عرف جورج شظف العيش في شبابه واشتغل ماسح أحذية ومات إثنان من إخوته جوعاً (ص ١٥٤). جورج من السريان الكاثوليك تكلّم العربيّة بلهجة أهل ماردين ولم يتملّك الفرنسيّة كما هو حال قرينته التي لم تنجح بإقناعه بخلع الطربوش حتّى عام ١٩٦٥ (ص ٥٣). معمرباشي كان من أغنياء حلب وأنقل هنا عن والدي عطّر الله ذكره أنّ سيّارة Lincoln الوحيدة في حلب كانت ملكاً لأحد أفراد أسرة معمرباشي. تكفّل التأميم في الستّينات بتجريد الأسرة من شطرٍ لا بأس به من أملاكها. 


أمّ المؤلّفة Ève دلّال من الروم الكاثوليك ترعرعت في عهد الانتداب في مدرسة الفرانسيسكان التي مُنِعَ الكلام بالعربيّة فيها وقتها. الأمّ إبنة مدينة فرضت على أهل بيتها الكلام بالفرنسية ولم تسقبل المسلمين إلّا على مضض (ص ٥٤) وكانت عندما تغضب من بناتها تعيّرهنّ "لستنّ إلّا بنات ماردين" (ص ١٦٧) أي كما ينعت بعض أهل المدن البعض الآخر "بالفلّاح" كنايةً عن الإزدراء. ذكرت المؤلّفة (ص ١٦٤) أنّ زوجة أخ جدّها من ناحية الأمّ افتتحت حلبة الرقص في قصر Tuileries بدعوة من الإمبراطور ناپوليون الثالث الذي افتتن بها إلى درجة أن يطلب من فنّانه المفضّل رسم لوحةٍ لها. بيت أمّ المؤلّفة مذكور في Guide Bleu ومع ذلك يبدو أنّ وضع أسرة دلّال - وإن كان أعلى اجتماعيّاً من آل معمرباشي -كان أدنى من الناحية الماليّة وإلّا لما رضيت بالزواج من جورج. كتبت المؤلّفة (ص ٥٥) كيف صادر الألمان بيت العائلة عام ١٩١٦ واضطرّت أّمّها التي لم يتجاوز عمرها ثلاث سنوات آنذاك إلى سرقة الطعام. 


إذاً لم يكن زواج جورج وإيڤ بالضرورة سعيداً لعدّة عوامل اجتماعيّة وشخصيّة. 


نأتي الآن إلى ماري سورا معمرباشي كما ترجمت حياتها بعفويّة وصدق إلى درجة البراءة ودون أدنى محاولة لإخفاء شعورها إيجابيّاً كان أم سلبيّاً. 


درست ماري في الفرنسيسكان مثل أمّها حيث لا يوجد اختلاط بين المسيحيّات والمسلمات (ص ٥٦) وحيث يعتبر المسيحيّون السريان في أسفل السلّم الاجتماعي. فرص لقاء البنات بالذكور في الخمسة عشر عاماً الأولى من حياة المؤلّفة نادرة (ص ٥٨) وبالنتيجة أرسلها أهلها إلى Oxford للدراسة عام ١٩٦٩ (ص ٤٨) حيث أمضت عدّة سنوات "بعيداً عن الإسلام" وهنا ذكرت أيضاً أنّ مسيحيّي حلب عموماً لا يعرفون القضيّة الفلسطينيّة. ماري صريحة للغاية فيما يتعلّق بمشاكلها النفسيّة ومحاولتها الانتحار في إنجلترا "من الملل" (ص ١٧٩) عندما أمضت ثلاثة أشهر تحت العلاج النفسي في إحدى المصحّات. 


حياتها العاطفيّة أيضاً معقّدة. زوجها الأوّل Eddy فلسطيني - أمريكي مسلم (ممّا هال أمّها التي قاطعتها لعدة أشهر) وإبن أحد أعيان القدس تعرّفت عليه في الولايات المتّحدة وتزوّجته في آذار مارس عام ١٩٧١ (ص ٧٠) وانفصلت عنه عام ١٩٧٥ أو قبل (ص ٣٩) ويبدو أنّه مات بعد ذلك بقليل ولكن الكتاب صامت عن كيف ولماذا ومتى. أضف إلى ذلك أنّ "غربان حلب" عمل أدبي تقفز عبره المؤلّفة باستمرار بين الماضي والحاضر وعبر القارّات عوضاّ عن اتّباع تسلسل زمني واضح وسلس 


من المفارقات أنّ الفضل في تعريف ماري على مسقط رأسها وثقافتها يعود إلى زوجها الثاني Michel Seurat الذي ربطتها به علاقةٌ خارجةٌ عن المألوف في عرف مجتمعات الشرق الأدنى إذ عاشت معه "بالخطيئة" (ص ٧٦) أي دون زواج لمدّة ثلاث سنوات قبل أن تنتقل معه من دمشق لتستقرّ في بيروت (ص ٧٩) عام ١٩٧٨ وتتزوّجه بالنتيجة في حزيران يونيو عام ١٩٧٩ وتتنفّس أمّها الصعداء. أنجبت ماري من ميشيل ابنتين قبل أن تخسره إلى الأبد ربيع ١٩٨٥.


أختم بالتعرض للمساعي اليائسة التي بذلتها ماري لاستعادة زوجها ولجوئها إلى مختلف الأطراف اللبنانيّة والفرنسيّة والفلسطينيّة والإيرانيّة وحتّى إلى العرّافات! (ص ١٣٨) لم يبقَ صحافيّ من الغرب أو الشرق لم يقابل ماري ولم يبقَ سياسيّ في فرنسا لم يستمع لها من وزارة الخارجيّة إلى رئيس الجمهوريّة عينه François Mitterrand الذي استقبلها في قصر Élysée (ص ١٠٣). الجميع تعهّدوا - صدقاً أم مجاملةً - بأن يفعلوا ما في وسعهم لإعادة ميشيل سالماً إلى زوجه وابنتيه وفشلوا في نهاية المطاف. 


لا أملك هنا إلّا المقارنة. ما حصل لميشيل وأحبّته محزن واختطافه جريمة بشعة ليس هناك ما يبرّرها. هناك ألوفٌ مؤلّفةٌ من الأبرياء عبر العالم عموماً وفي الشرق الأدنى خصوصاً ممّن يُختَطَفون ويُهجّرون ويُقتلون ويبقوا مجرّد أرقام لا يكترث لها أحد إلّا إذا تجاوز حجم الكارثة حدّاً معيّناً  - كما حدث في الزلزال الأخير الذي ضرب سوريّا وتركيّا - ومع ذلك ما أسرع نسيان هذه المآسي! السبب الوحيد الذي جعل الرئيس ميتران يقابل ماري هو أنّ ميشيل مواطن فرنسي. الوضع مختلف فيما يتعلّق بمواطنيّ العالم الثالث الذين يبقون جنوداً مجهولين لا أسماء لهم ولا أحبّة تبكي فراقهم.        

No comments:

Post a Comment