توحي أطلال جبل مار تقلا بعظمة ومجد غابر ومن الواضح أنّ الآبدة بنيت وفقاً لمخطّط شامل دقيق توخّي فيه البذخ. ما نراه هنا يتجاوز بكثير الكهوف الطبيعيّة التي قام الإنسان باستعمالها بعد توسيعها في سائر القلمون.
من بنى هذه الأطلال ومتى بنيت ولأيّ غرض شيّدت؟ لم يعثر Thoumin على أي نقوش كتابيّة من أي نوع وبالتالي لجأ إلى القرائن الجغرافيّة والمعماريّة في محاولة منه لإجابة هذه التساؤلات.
تشير عدّة دلائل إلى استعمال الأطلال كقلعة في عصور مضت: الموقع على قمّة الجبل + بعض العناصر المعماريّة المتناثرة بين الأنقاض + الروايات المتداولة في الإقليم.
تهيمن كتلة جبل مار تقلا الصخريّة (كناية عن امتداد معزول في نهاية إحدى سلاسل جبال لبنان الشرقيّة) على العتبة المؤديّة إلى سهل صيدنايا. هذا الطريق معروف ومطروق وهناك من مخلّفات العصر الروماني في القلمون ما يدلّ على كون القلمون مأهولاً إلى درجة لا بأس بها تحت الأباطرة. وادي منين كان الدرب الوحيد لمن يقصد صيدنايا - أو ما وراء صيدنايا - قادماً من دمشق ومن المعقول جدّاً أنّ زعيماً ما أدراك الأهميّة السوقيّة (الاستراتيجيّة) لإقامة حصن على قمّة الجبل يستطيع منه أن يراقب الإقليم المحيط به وأن يحمي التجّار العابرين أو يطلب منهم خوّة إذا طاب له خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار الوضع الأمني المائع في الأقاليم الآسيويّة في القرن الثالث للميلاد ومن ثمّ الفوضى التي سادت في أكثر من حقبة تحت العبّاسييّن والفاطمييّن.
مع ذلك لا بدّ أنّ مار تقلا لم يكن فقط حصناً نظراً لتنظيمه المعماري البديع وأدراجه العديدة العريضة والأبّهة في تنفيذه. كلّ هذا يشير إلى معبد وحتّى الموقع ذاته على قمّة الجبل يتوافق مع العبادات الساميّة القديمة على المرتفعات التي أدانها كتاب العهد القديم في عدّة مواضع (على سبيل المثال عدد الإصحاح الثالث والثلاثون الآية الثانية والخمسون ولاويين الإصحاح السادس والعشرون الآية الثلاثون وإرميا الإصحاح الثاني والثلاثون الآية الخامسة والثلاثون).
هناك أيضاً وادي منين الأخضر على سفوح الجبل الأجرد وخصوصاً نبع منين الذي كان محطّاً للعبادة وبقي كذلك في ذاكرة الناس حتّى منتصف القرن التاسع عشر بشهادة بعض المسنّين من أهل منين (كتب Thoumin عام ١٩٢٩) الذين نقلوا عن آبائهم قصص القرابين وذبح الخرفان قرب العين. اندثرت هذه الطقوس الدمويّة وإن لا يزال النبع - في ذهن الأهالي - مقترناً بالأعاجيب.
تحوّل المعبد لاحقاً إلى كنيسة مسيحيّة ممّا يعزى إلى القدّيسة هيلانة في عصر اجتهدت فيه السلطات الإمبراطوريّة في ملاحقة واجتثاث الديانات القديمة. أبرم قسطنطين أمره بتحويل المعايد الوثنيّة إلى كنائس وأصدر تعليماته في هذا الصدد إلى أساقيف فلسطين وفينيقيا (أي الساحل السوري - اللبناني). ليس هناك ما يمنع من الاعتقاد أنّ مار تقلا منين كان مشمولاً بهذه الإجراءات أو ما شاكلها.
مار تقلا معلولا بين المسيحييّن والمسلمين
No comments:
Post a Comment