أعود إلى تعريب مقتطفات من مقال Caviglioli في مجلّة Paris Match عن مؤتمر جنيف ٢١-٢٩ كانون أوّل ديسمبر ١٩٧٣ وبداية ما أسمي لاحقاً "عمليّة السلام" أو Peace Process. أنقل فيما يلي كلام الكاتب كما هو وأحتفظ بأي رأي أو تعليق للحواشي:
"دخل العرب والإسرائيليّون وكأنّهم لا يرون بعضهم بعضاً إذ ليس لديهم حتّى الآن الجرأة الكافية لتبادل النظرات أو على الأقلّ ليس في اليوم الأوّل للاجتماع. يتظاهر المصريّون بتبادل الهمسات والاستشارات بينما يمرّر الإسرائيليّون أحدهم إلى الآخر قصاصة ورق كما لو كانوا بحاجة إلى أمر مكتوب لمباشرة المفاوضات مع أعدائهم. يتبسّم كيسنجر كما لو أحرز مأثرة مبينة بينما يصطنع غروميكو وجهاً لا يمكن تفسير تعابيره ولا يقلّ حياداً عن سويسرا عينها كما يتطلّب إتيكيت الكرملين الآسيوي. أبا إيبان أكثر تشنّجاً من الجميع.
لم يفت المسؤولون عن الاجتماع السهر على وضع أدوات مائدة السورييّن (١) الغائبين وبري أقلام الرصاص المخصّصة لهم وإملاء كؤوسهم بالماء العذب. كلّ هذا للتوكيد أنّ المنطّمين لم ينسوهم وأنّهم ينتظرون وصولهم للاحتفاء بهم وما بوشر المؤتمر دونهم إلّا بداعي ضيق الوقت. ليس السوريّون حقّاً بغائبين بل بالأحرى ضيوف تأخّر مجيئهم.
تمّ تجهيز كلّ المستلزمات وآن الأوان لافتتاح الجلسة. كانت المفاجأة عندما رفض وزير خارجيّة مصر اسماعيل فهمي (٢) أن يجلس إلى جانب الإسرائيلييّن كما يحتّم الترتيب الألفبائي. ردّ أبا إيبان على التوّ أنّه لا يقبل أن يعزل وفده عن البقيّة بواسطة المقعد الخالي للوفد السوري وإذ ذاك ألقى كيسنجر نظرة صاعقةً على الشباب العباقرة الذين وثق فيهم لترتيب اللقاء وخيّبوا أمله في فشلهم بالتنبّؤ بهذه العقبة. مع ذلك يمكن اعتبار هذا التشدّد في آخر لحظة علامةً مشجّعةً والدليل أنّ ما أدّى إلى النفور المتبادل بين الوفود هو قرب أعضائها غير المسبوق بعضهم من البعض الآخر. في كلّ الأحوال حلّ الوزير المصري نفسه المعضلة مقترحاً أن يجلس المصريوّن والإسرائيليّون وجهاً لوجه عوضاً عن جنباً إلى جنب.
على هامش الاجتماع أخطأ مراقب عراقيّ - صحافيّ مزعوم - في الباب ودخل المكتب الصحفي الإسرائيلي ليخرج منه فوراً كما وأنّه دهس على عشّ للزنابير. لا بأس إذ كثيراً ما يبدأ السلام بغلطة من هذا النوع.
علاوة على ذلك لهذا المؤتمر مكان لقاءٍ غير رسمي ألا وهو فندق الإنتركونتيننتال الأشبه - بغرفه الأربعمائة - بثكنة تطلّ على البحيرة المغلّفة بالضباب. يحتل المصريّون الطابق الخامس بينما يشغل السادس السكرتير العامّ للأمم المتّحدة كورت فالدهايم نفسه بكلّ بروده وتكتّمه. الطابق السابع مخصّص لمحطّة القوافل الأميركيّة مع رجال الأمن الذين يصعب التعاطي معهم وأخصائيّو الشرق الأوسط الشباب والنساء الفتيّات ممّن يحار المرء في أمرهنّ واللواتي لا يشغلن وظيفة محدّدة وأناس لكافّة المهامّ التي لا يمكن الاستغناء عنها في رحلات الدكتور هنري الأشبه بالمعجزات (٣). أخيراً هناك الوفد الأردني في الطابق التاسع الذي يشكّ أعضاءه في جميع الناس ويبتسمون لجميع الناس.
جرى احتماع غداة الجلسة الافتتاحيّة هدفة تعليق مؤقّت للأعمال. كان ذلك يوم السبت ومع ذلك وافق الإسرائيليّون على الحضور. ظهر الأردنيّون في حالة استرخاءٍ إلى درجة إشعال بعضهم السيجار ولكن عندما اقترح الدكتور كورت فالدهايم كأساً للاحتفال بالمناسبة أجابه المصري بكل صرامة أنّ الوقت لا زال مبكّراً لمجاملات اجتماعيّة من هذا النوع. لربّما بيد أنّ هذا لا يمنع أنّ هذا الوقت آتٍ في حينه ويبقى السلام السويسري أفضل من كافّة الحروب."
للحديث بقيّة.
(١) رفض الرئيس السوري حافظ الأسد المشاركة في المؤتمر ومن أحد الأسباب - أو على أقلّ تقدير أحد الذرائع - عدم دعوة منظّمة التحرير الفلسطينيّة.
(٢) استقال فهمي في السابع عشر من تشرين ثاني (نوفمبر) ١٩٧٧ على خلفيّة الزيارة التي أزمع الرئيس السادات أن يقوم بها إلى القدس وهذا بالطبع حديث آخر.
(٣) شبّه البعض هنري كيسنجر بالساحر والبعض الآخر بسوبرمان. كتب الصحافي الراحل محمّد حسنين هيكل الكثير عن "سحر" الدكتور كيسنجر المزعوم وكيف كان بستقبل بالأحصان والقبلات في مصر إلى درجة أنّه أسرّ لرئيسه نيكسون أنّه "اصبح يشكّ في نفسه - أي في هويّته الجنسيّة - لكثرة من قبّلوه من الرجال في مصر". علّ أطرف ما كتبه هيكل في هذا السياق أنّ "كيسنجر لا يستطيع أن يبدع إلّا تحت الأضواء" إشارة منه إلى كونه أشبه بنجم السينما مع التشديد على "يبدع" وليس "يحلّ الأزمات".
هنري كيسنجر مترنيخ القرن العشرين
François Caviglioli. Paris Match 1287 (5 janvier 1974).
No comments:
Post a Comment