أودّ قبل متابعة رواية الجنرال Andréa عن الثورة السوريّة الكبرى (أو عصيان الدروز كما أسماه) التعرّض لنقطة تستحقّ التأمّل: الحرب اللامتناظرة أو asymmetric warfare أي عندما يكون التفاوت بين قوّة الطرفين كبيراً إلى درجة حسم نتيجة الحرب قبل بدايتها. هكذا كان الوضع عام ١٩٢٥ عندما تحدّى دروز سوريّا - مع إسهام معيّن من دمشق وغوطتها - فرنسا التي كانت في ذلك الحين قوّةً عظمى. قد ينجح الثّوار (أو العصاة حسب المنظور) في كسب بعض المعارك كما حصل فعلاً أمّا عن النهاية المحتومة فلم يكن فيها ذرّة من الشكّ ما لم - وهذا بعيد الاحتمال - تتدخّل قوّة عظمى ثانية ضدّ الفرنسييّن، في هذه الحالة بريطانيا. قد يحاجج البعض أنّ سوريّا استقلّت بعد عشرين عاماً من ثورتها بيد أنّ هذا لم يكن بفضل "بتع" السورييّن وإنّما بكل بساطة ظروف تاريخيّة معيّنة واستثنائيّة لم تكن في الحسبان في مطلع عهد الانتداب (هزيمة فرنسا على يد ألمانيا في الحرب العالميّة الثانية وخروجها منها قوّةً من الدرجة الثانية ووقوف بريطانيا في وجه محاولة الفرنسييّن قمع انتفاضة دمشق عام ١٩٤٥).
يترتّب على ذلك أنّنا إذا طرحنا الأساطير والملاحم الشعبيّة وروايات الحكواتيّة جانباً فسيتغلّب القوي على الضعيف حتماً في أي مجابهة بين الإثنين. حتّى عندما تتصارع كبريات الدول بعضها مع البعض الآخر فالنصر كقاعدةٍ عامّة دائماً حليف الطرف الأكثر موارداً والأقوى عدداً وعدّةً. الحربان العالميّتان الأولى والثانية كانتا حربيّ استنزاف وما قرّر نتيجتهما التفوّق الصناعي والجغرافي والبشري والمالي لدول الحلفاء الذين كان في وسعهم أن يخسروا المعركة تلو المعركة ويربحوا في نهاية المطاف.
هل يعني ذلك أنّ الضعيف عديم الحيلة في مواجهة القوي؟ ليس بالضبط إذ هناك دائماً "أمل إبليس بالجنّة" ولكنّه يعتمد حكماً على عنصر المفاجأة (الغدر إذا تبنّينا منظور القوي) والكمائن والهجمات الليليّة. بعبارةٍ ثانية ما يطلق عليه في يومنا - من قبل الطرف الأقوى طبعاً - "الإرهاب" وكأنّ بإمكان بندقيّة الضعيف أن تجابه دبّابات وطائرات القوي في وضح النهار. الإرهاب (أو العمل الفدائي كما يراه أصحابه) باختصار تكتيك معروف في الحروب اللامتناظرة.
إذاً تهمة "الإرهاب" ما هي إلّا وسيلة دعائية يستعملها الطرف الأقوى لتجريد خصمه الضعيف من كل جدارة واستحقاق وتصويره كمجرم خارج عن القانون وليس كخصم أو عدوّ. من نافل القول أنّ القوانين الدوليّة (التي سنّها الأقوياء طبعاً) لا تعتبر "الإرهابييّن" جنوداً وبالتالي فلا حاجة للمنتصر إلى معاملة أسراهم وجرحاهم وفقاً "لأعراف الحرب" اللهمّ إذا قبلنا بوجود أعراف للقتل والنهب والتدمير.
هناك بالمقابل تهمة "الوحشيّة" و"الهمجيّة" التي يلصقها الضعيف بالقوي عندما يستخدم هذا الأخير "القوّة المفرطة" في إخماد القمع أو التمرّد. ليست هذه التهمة مشروعةً أكثر من سابقتها والسبب بسيط: عندما تسند دولة ما إلى قادتها العسكرييّن مهمّة قمع تمرّد (أو ثورة) فواجب هؤلاء القادة هو إخماد العصيان بأسرع وقت ممكن وأقلّ كلفة ممكنة في أرواح جنودهم. هذا يعني بالضرورة على سبيل المثال وليس الحصر أنّه ليس للمتمرّد - الثائر الذي يطلق النار مختبئاً في أبنية المدينة أو بينها أن يتوقّع أن يرسل عدوّه جنوده في الأزقّة الضيّقة ليصبحوا فريسةً سائغةً للقنّاصة وإذا توقّع ذلك فقد جانبه الصواب إلى أقصى الحدود. تقتضي قواعد "الحرب اللامتناظرة" في هذا الحالة أن يسلّط القوي مدافعه وطائراته وأسلحته الثقيلة على الحيّ أو الأحياء العاصية فيهدمها على رؤوس أصحابها بهدف وأد الفتنة في مهدها كما فعل الفرنسيّون في دمشق في خريف ١٩٢٥ وكما فعل ويفعل وسيفعل غيرهم في حالات مماثلةٍ في كلّ زمان ومكان.
الرحمة والشفقة والشهامة وحسن النيّة وحقن دماء المدنييّن والأبرياء مفاهيم جميلة على الورق ولكنّها لا تنتمي بصلة إلى الواقع الذي نعيشه. الحرب جحيم ووبال على الجميع باستثناء نزر يسير من تجّارها والمنتفعين منها ومن دمارها.
أدين بالصورة اللحقة للعلم أو البيرق الدرزي للصديق العزيز الأستاذ عبد الهادي نجّار.
Édouard Andréa. La Révolte druze et l'insurrection de Damas, 1925-1926. Payot, Paris 106 Boulevard St. Germain, 1937.
No comments:
Post a Comment