شهدت العاصمة (١) أحداثاً جِساماً في الوقت الذي حاول فيه رتلنا السيطرة على المقرن الجنوبي. أحد هذه الأحداث ولربّما أكثرها إثارةً ظهور أحمد الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزيّة في الجبل، في السويداء. من المعروف أنّ الشيخ أحمد كان ناشطاً في دعمه للثورة حتّى ذلك الحين.
تلاشت إمكانيّة نجاح التمرّد في ذهن الهجري وعلّه أراد مساعدة منظّميه في الخروج من المأزق الذي تورّطوا فيه عن طريق التوسّط بيهم وبين الفرنسييّن. التمس الشيخ من القائد العسكري للسويداء الإذن بالمثول أمامه كمبعوث زعماء العصاة ليتحرّى عن شروط الاستسلام. كتب الهجري: "أنا شخصيّاً على أتمّ استعداد لإعلان طاعتي ولكنّي لن أفعل ذلك قبل إعطاء تقرير لرؤساء الانتفاضة الذين أوفدوني عن مقابلتي معكم".
قبلنا عرض الهجري وأرسلنا له إذناً بالمرور يضمن سلامَتَهُ وهكذا أتى إلى السويداء في السادس من تمّوز يوليو عام ١٩٢٦ حيث تبرّأ على الفور من المظبطات المنسوبة إليه والتي تشجّع الدروز على التمرّد زاعماً أنّها صدرت عن أرباب الحرب أنفسهم ومضيفاً: "على العكس، بذلتُ دائماً جهدي لتهدئة النفوس وإذا لم تكّلل محاولاتي بالنجاح فهذا يعود إلى تأثيراتٍ أقوى منّي. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ شعباً امتُحِنَ - كما هو حال الدروز اليوم - لن يصغي لمشورة رجال الدين خاصّةً إذا لم يخشَ عقاباً على الشرور التي قد يقترفها".
لم ينكر أحمد الهجري علاقاته مع زعماء المتمرّدين ولكنّه برّرها بالرقابة الصارمة التي مارسها هؤلاء تجاهه واحتمال إيداعه السجن إذا حاول مجابهتهم. عاد فأكّد لنا: "جميع ما فعلتُهُ كان في سبيل تلطيف الجوّ".
أجابه الكولونيل: "تستطيع بنفسك أن تزور العائلات التي عادت إلى السويداء وتتحقّق من كيفيّة معاملتنا إيّاها. لك مطلق الحريّة في التواصل معها ومع زملائك مشايخ العقل الثلاثة (٢) الذين دخلوا في طاعتنا منذ زمن طويل وستدرك وقتها الدرك الذي انحطّت إليه الدعاية الشائنة التي يروّجها زعماء المتمرّدين عن سلوك جنودِنا. سترى بأمّ عينك النساءَ يتجوّلنَ بمنتهى الحريّة معزّزاتٍ مكرّمات وستشاهد أيضاً الأطبّاءَ الفرنسييّن يتفانون في العناية بالمرضى الدروز، خصوصاً الأطفال الذين هم أكثر المتضرّرين من الشقاء الذي جلبته الثورة إلى ربوعكم."
عبّر أحمد الهجري عن شكره وتساءل - لربّما كان هذا هو الهدف الحقيقي لزيارته - عن مصير سلطان وبعض زعماء التمرّد في حال استسلامهم. أجابه الكولونيل في حذر ودون التعهد بشيء على الإطلاق آخذاً بعين الاعتبار أنّ العفو سيشمل الكثيرين ولكنّه لن يكون من نصيب سلطان الأطرش قاتل الملازم Bouxin والمسؤول عن المذبحة التي ذهب ضحيّتها جنودُنا في الكفر والمزرعة. وجود هذا المجرم الكبير في الجبل غير مرغوب فيه لا الآن ولا في المستقبل كونه ينال من مهابتنا في إقليم الدروز خصوصاً وشرفنا في سوريّا عموماً.
فهم الهجري الإشارة على التوّ ولم يلحّ في السؤال وأعلن إثر ذلك عن نيّته في الذهاب إلى شقّا في إقليم آل عامر ليطلع مشايخ المتمرّدين على نتائج رحلته ويحاول إقناعهم بالتعاون مع فرنسا والتوقّف عن الصراع بغيةَ إنهاء البؤس الذي ترزح تحته البيوت الدرزيّة. رحل الشيخ بعد أن طمأن الكولونيل عن عزمه على الاستسلام في أقرب وقتٍ ممكن.
(١) السويداء.
(٢) حسن جربوع وعلي الحنّاوي ومحمود أبو فخر.
No comments:
Post a Comment