Tuesday, August 10, 2021

فرنسا قبل ميسلون

 


تغلغل الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً في الشرق الأدنى أقدم بكثير من إنذار غورو والانتداب الفرنسي. كان هذا التغلغل اقتصادياً وفكريّاً قبل أن يكون سياسيّاً وعسكريّاً وتصاعد شيئاً فشيئاً حتّى امتدّ إلى أدقّ التفاصيل في حياة النخبة السوريّة: الأثاث وأدوات المائدة والثياب والإتيكيت وتبنّي اللغة الفرنسيّة وقراءة الكتب الفرنسيّة والاستشهاد بالفلاسفة الفرنسييّن وهلمّجرّا. 


تفاوت التأثّر بالغرب بين إقليم وآخر في الإمبراطوريّة العثمانيّة. البداية كانت في مصر محمّد علي والقسطنطينيّة في عهد محمود الثاني ولدينا بالطبع نموذج مصغّر في لبنان أمّا الشام فقد  تقاعست عن اللحاق بالركب وإن لم يمنع هذا التأخّر انضمامها إليه في نهاية المطاف. 


سواء أحببنا الغرب - بلبوسه الأوروبي سابقاً أو الأمريكي لاحقاً - أو كرهناه فلا مناص من الإقرار بتفشّي قيمه وأفكاره بين ظهرانينا وعلى جميع الأصعدة. ليس الموضوع مقتصراً على العلم والطبّ والتقنيّة الحديثة بل يتعدّاه إلى الموسيقى وأفلام هوليوود والأزياء من البدلات وربطات العنق والفساتين إلى سراويل الجينز وتصفيف الشعر والوشم وثقب الآذان والأنوف وغيرها... الغرب اليوم قبلة الشرق وما أكثر الشرقييّن الذين يعيشون في المهجر بعقولهم وقلوبهم إن لم يكن بأجسادهم. يحضرني هنا تمثيليّة للفنّان الكبير ياسر العظمة بتغنّى خلالها بالعروية ويشتم كلّ ما هو غربي من بداية الحلقة إلى قبيل نهايتها ليختمها ببشرى سارّة تتلخّص في حصوله على تأشيرة للولايات المتّحدة الأمريكيّة!  


عانى شرق أوروبا من معضلة تفوّق الغرب تماماً كما عانت منه الشام ومرّ في نفس التناقضات التي عبّر عنها الكاتب الروسي العظيم Léon Tolstoï بمنتهى البلاغة على لسان حاكم موسكو Rostoptchine مخاطباً الأمير Bolkonsky قبيل حملة نابوليون على روسيا:


"كيف نستطيع محاربة فرنسا أيّها الأمير؟ كيف نستطيع أن ننهض ضدّ سادتنا.. ضدّ آلهتنا؟ هاك شبابنا وسيّداتنا الذين يتّخذون الفرنسييّن أصناماً لهم ويعتبرون باريس جنّتهم!" رفع روستوبشين صوته حتّى يسمع الجميع "كلّ ما يحيطنا فرنسي: الأزياء.. الأفكار.. المشاعر..! لقد طردت قبل قليل طبيبك الفرنسي في الوقت الذي ترتمي فيه نساؤنا على ركبتيه! .... كم سيسعدني أن أنتزع عصا بطرس الأكبر الغليظة من المتحف لأهشّم بها أضلاع جميع شبيبتنا على الطريقة الروسيّة المتّبعة في الماضي! أقسم لك أنّ هذا الإجراء سيرسل افتتانهم الأبله هذا على جناح السرعة إلى جميع الشياطين!"


"Mais comment nous décider à faire la guerre à la France, prince ? demanda Rostoptchine. Comment nous lèverions-nous contre nos maîtres, contre nos dieux ? Voyez notre jeunesse, voyez nos dames ! Les Français sont leurs idoles, Paris est leur paradis ! » Il éleva la voix, pour être bien entendu de tous : « Tout est français, les modes, les pensées, les sentiments ! Vous venez de chasser Métivier, tandis que nos dames se traînent à ses genoux.......... Avec quel plaisir, prince, n’aurais-je pas retiré du Musée la grosse canne de Pierre-le-Grand, pour en rompre, à la vieille manière russe, les côtes à toute notre jeunesse !… Je vous jure que leur sot engouement serait bien vite allé à tous les diables !"


من سخرية الأقدار أنّ روستوبشين - بشحمه ولحمه - هاجر إلى فرنسا عام  ١٨١٧ ليستقرّ في باريس وأنّ قرينته وابنته تركتا المذهب الأورثوذوكسي واعتنقتا الكاثوليكيّة (كما قدّر للملكة نازلي أمّ الملك المصري فاروق وأخته الأميرة فتحيّة أن تنقلبا عن الإسلام إلى المسيحيّة الكاثوليكيّة وتهاجرا إلى الولايات المتّحدة في منتصف القرن العشرين). ليس ذلك فحسب بل أصبحت ابنة روستوبشين comtesse de Ségur كاتبة معروفة لروايات الأطفال في فرنسا وأنهت أيّامها فيها بينما عاد أبوها بالنتيجة إلى روسيا عام ١٨٢٥ ودفن في موسكو في مطلع العام التالي. 



Léon Tolstoï. Guerre et Paix

No comments:

Post a Comment