Wednesday, June 22, 2022

تبلور دمشق الإسلاميّة



أرغب قبل الدخول في الموضوع إيضاح بعض النقاط التي التبست على بعض المتابعين الكرام وتحديداً عن هويّة مؤلّف المنشورات (بدايةً من الأسبوع الأوّل من الشهر الجاري) الذي اعتقد البعض أنّه البستاني. 


- المقال قيد الحديث للمستشرق الفرنسي Jean Sauvaget نشر في مجلّة الدراسات الإسلاميّة عام ١٩٣٤ ويعكس فحوى ثلاث محاضرات ألقاها المؤلّف في جامعة باريس في أيّار عام ١٩٣٣.

- عرّب فؤاد إفرام البستاني المقال ونشرته المطبعة الكاثوليكيّة عام ١٩٣٦.

- قام أكرم حسن العلبي بتحقيق المقال عام ١٩٨٩ وهذه النسخة المحقّقة هي المتوافرة اليوم على الشبكة لمن يريد تحميلها.

- ما نشرته إلى اليوم تعريبي لمختارات من النصّ الفرنسي الأصلي (في تقديري حوالي ثلثيّ المقال الأصلي) دون الاعتماد على ترجمة البستاني أو تحقيق العلبي. أرفقت بكل منشور صورة أو خريطة اعتقدتها الأكثر تعلّقاً بالمقطع أو المقاطع في المنشور. حاولت جهدي إيصال أفكار Sauvaget كما هي دون أدنى محاولة لتلطيفها أو تنميقها واقتصرت في الحواشي على إيضاح بعض النقاط وتصحيح الأخطاء - إذا وجدت - دون إبداء رأيي على مبدأ أنّ الرأي لصاحب الكتاب وأنّ الأمانة العلمية في النقل تقتضي عدم المساس به. أوردت النصّ الفرنسي لكلّ ما نشرته لمن يرغب في المقارنة أمّا عناوين المنشورات فمعظمها من اختياري. 


نأتي الآن إلى حديث اليوم وأترك الكلام للعالم Sauvaget. 


تطوّرت شوارع دمشق اليونانيّة الرومانيّة على خطوط صارمة في استقامتها وثابتةً في عرضها ومحافظةً على استمراريّتها. بالمقارنة كثيراً ما انتهت أزقّة القرون الوسطى في دخلات مسدودة وسواءً نظرنا إليها ككلّ أو تفحّصنا تفاصيل اصطفافها نلاحظ أنّ الخطّ المستقيم فيها هو الاستثناء وليس القاعدة. أضف إلى ذلك تفاوت عرضها إلى أقصى الحدود (الصورة الملحقة) ومن الممكن أن يضيق الدرب ليصبح أشبه بنفق بالكاد يتّسع لمرور رجل واحد. مع ذلك لا يمكن إنكار الرابطة الطبوغرافيّة بين شوارع دمشق في العهود الإسلاميّة من جهة ونظائرها في العصور الكلاسيكيّة من جهة ثانية نظراً لأنّ العديد منها يخطّ على الأرض مساراً أميناً في اتّجاهه ورتابته للشرايين الهلنستيّة. نستخلص إذاً نتيجةً مفادها أنّ التنظيم القديم تغيّر وتشوّه ببطء ولكن باستمرار تحت وطأة سلسلة مستمرّة من الانتهاكات على حساب الطريق العامّ


سهّل وضع المدينة القانوني أو بالأحرى غيابه هذه الانتهاكات حيث أنّ الشريعة الإسلاميّة لم تتعرّض لهذه المسألة. اختفت المؤسّسات البلديّة في  عصر أعطيت التجمّعات العمرانيّة في أوروبّا خلاله مكانةً وامتيازاتٍ خاصّة أو أقطعت بشكل وراثي (١). المدينة في المشرق جزء لا يتجزّأ من الأمّة الإسلاميّة بمفهومها الواسع ولا يملك إنسان المعرفة أو المقدرة الضروريّة لإدارة شؤونها والتحكّم بمصائرها: تقتصر صلاحيات المحتسب على النهي وليس له أبداً أن يمسك بزمام المبادرة أمّا النائب فواجبه الأوّل الدفاع عن البلاد وجباية الضرائب وليست المدينة بالنسبة له إلّا مجموعة من المكلّفين وعناصر سلبيّة أو إيجابيّة في الأمن العامّ. علاوة على هذا وذاك لم يتّسم وضع النائب بالاستقرار وبالتالي ما كان له أن يرتبط بعلاقةً وثيقة وفعّالة مع مكان إقامته المؤقّت (المدينة). نصرّفاته كانت بدوافع الفساد أو إرضاء أسياده الأقوياء.  


أدّت هذه العوامل إلى نتيجة في غاية الأهميّة: لم تعد المدينة في نظر الدولة كياناً حيّاً ومعقّداً قائماً بذاته بل بالأحرى تجمّعاً لأفرادٍ ذوي مصالح متضاربة يعمل كلّ منهم في مجاله لحسابه الشخصي دون أدنى اعتبار لجاره ويستعمل كلّ الوسائل المتاحة له بأفضل شكل ممكن في سبيل الوصول إلى أهدافه الأنانيّة. حتّى التجمّعات الوحيدة التي نصادفها - الأحياء والمنظّمات الحرفيّة - لم تشذّ عن هذه القاعدة ولم يعد تطوّر المدينة أكثر من إضافة مجموع المبادهات الفرديّة. مع ذلك هناك وضع خاصّ للأمراء والمتنفّذين ممّن حدّدت متطلّباتهم ورغباتهم سلوك عامّة الناس الذين شكّلوا أغلبيّة الأهالي وأكثرهم نشاطاً. 


حافظت دمشق على هذه الملامح دون تغيير يستحقّ الذكر ليس فقط خلال العصور الوسطى بكاملها - بالمعنى الغربي للمصطلح (٢) - وإنّما أيضاً طيلة العصر الحديث ولم تخفّ حدّتها إلّا بدايةً من منتصف القرن التاسع عشر تحت التأثير الأوروبّي. 




(١) مدلول مصطلح الإقطاع في أوروبّا مختلف عنه في المشرق. الإقطاعي الأوروبّي أقوى بكثير سياسيّاً وعلاقته الأقرب إلى النديّة vassal مع الملك suzerain لا يمكن مقارنتها بتبعيّة "إقطاعي" بلاد الشام المطلقة للسلطان. 

(٢) انتهت القرون الوسطى بالنسبة للغرب مع سقوط القسطنطينيّة (أو فتحها إذا شئنا) عام ١٤٥٣ وهناك من يعتمد اكتشاف القارّة الأميركيّة عام ١٤٩٢. ليس من المبالغة القول أنّ القرون الوسطى في الشرق دامت حتّى أواخر القرن الثامن عشر أو مطلع التاسع عشر. 










فؤاد إفرام البستاني. دمشق الشام. المطبعة الكاثوليكيّة










Jean Sauvaget. Esquisse d'une histoire de la ville de Damas. Revue des Études islamiques, 1934, p. 422-480.


  

No comments:

Post a Comment