وصف المستشرق الفرنسي Sauvaget دمشق في العهد الروماني قبل قرابة التسعين عاماً معتمداً على ما تبقّى من هيكلها القديم وأبحاث من سبقوه مع إضافة تحليله واستنتاجاته لملء الفراغات وما أكثرها. أنقل فيما يلي تعريبي عن الأصل الفرنسي مع التعليق في الحواشي استناداً إلى المعطيات والدراسات التي استجدّت منذ كتابة المقال قيد الحديث.
بلغت مساحة المدينة داخل السور قرابة مائة وخمساً من الهكتارات وضمّ هذا السور دمشق الآراميّة مع الأحياء الجديدة وخطّ حسب الطرائق المتّبعة في التحصينات الرومانيّة. شكّل الجدار مستطيلاً (١) طوله ألفاً وخمسمائة من الأمتار وعرضه سبعمائة وخمسون متراً واتّبع خطوطاً مستقيمةّ تماماً في الشرق والجنوب والغرب أمّا في الشمال فقد فرض النهر - الذي كان بمثابة الخندق - تعرّجات والتواءات على مسار السور. لدمشق الرومانيّة سبعة أبواب: ثلاثة في الشمال واثنان في الجنوب (الدفاع عن السور الشمالي أسهل بفضل بردى ومنه يمكن المخاطرة بفتح عدد أكبر من الأبواب) والبابان الرئيسان الشرقي والغربي.
استلزمت زيادة عدد السكّان شقّ قناة جديدة لتزوّد ثلاثة أرباع المدينة بحاجتها من المياه. دعي هذا الفرع المستحدث لبردى القنوات واشتقّ من النهر الأمّ قبل دخول المدينة إلى السهل حيث يعبر منخفضاً على قنطرة حجريّة دائريّة العقود ولا بدّ أنّه اتّصل قديماً بخزّان ماء أو حتّى معبد لحوريّات الينابيع.
أعيد بناء المعبد بالكامل في العهد الروماني حسب ذوق العصر بيد أنه احتفظ تحت مظهره الغربي بالخصائص الأساسيّة لتوزيع المعابد الساميّة. تحيط ثلاثة جدران من الخارج إلى الداخل بهذا المعبد: الأوّل أو الحرم الخارجي temenos أبعاده ٣٠٠ متر x ٣١٠ متر ويمكن اعتباره ملجأً للمستجير. يحدّ هذا المعبد من الداخل رواق ونرى بوّابة مهيبة propylaea على واجهته الرئيسة أمّا في واجهته الخلفيّة (على الجدارين الغربي والشمالي والزاوية التي يشكّلانها) فهناك الغامّا (من شكلها Γ الذي يشبه الحرف اليوناني gamma) وفيها مخازن المعبد ومساكن سدنته. السور الثاني أو الداخلي peribolos (٢) بطول مائة وستّين متراً وعرض مائة متر يقع في مركز ساحة الحرم الخارجي. للمعبد الداخلي أيضاً بوّابته المهيبة propylaea ورواق مسقوف على مسار جداره تفتح تحته حنيات جداريّة exedra. أخيراً هناك في الحرم الداخلي ما يسمّى cella أو naos أو "قدس الأقداس" حيث يقطن الإله (الوثن أو الصورة) وكنزه وأمامه المذبح وحوض الوضوء. البناء بكامله من الحجر الجيّد النحت الكبير القطع والطراز القورنثي.
مظهر الأحياء الجديدة واحد ومخطّطها عل الأقلّ يشبه مثيله في العهد الهلنستي. قسمت هذه الأحياء إلى جزيرات منتظمة على نفس النسق وبنفس المقاس (٣). مع ذلك انحرف بعضها قليلاً عن محور الشوارع كما نري في النيبطون وهذه التسمية عربيّة من الأنباط الذين تنازلت روما عن دمشق لهم مرّتان.
فيما يخصّ شوارع المدينة كان لا بدّ من توسيع المؤدّي منها إلى الأبواب وهكذا أصبح الطريق المؤدّي من الباب الشرقي إلى الباب الغربي محور المدينة وشارعها الرئيس بامتياز بطول ألف وخمسمائة متر. شقّ هذا الشارع في قلب التجمّع القديم مع اللجوء إلى استملاك ما وقف في طريقه عندما دعت الحاجة وبلغ عرضه خمسة وعشرين متراً ونصف المتر منها إثنا عشر متراً للطريق المعبّد في المنتصف والباقي موزّع على رواقين معمّدين على الجانبين كانا بمثابة أرصفة وأسواق تجاورت فيها الحوانيت كيفما اتّفق. اعترضت ثلاثة عقود فخمة هذا "الشارع المستقيم" لدى تقاطعاته الرئيسة. لدينا إلى الشمال شارع معمّد آخر يصل المعبد بساحة المدينة agora. بدأ هذا الشارع لدى بوّابة مهيبة propylaea ولربّما كان محفوفاً بأروقة مسقوفة تحتها مذابح أو أوابد نذوريّة أو تماثيل المحسنين إلى المدينة (٤).
تكمل بعض التسميات العربيّة معلوماتنا عن المدينة القديمة:
- يوافق حيّ الديماس موقع Dēmósion (إدارة الماليّة) قرب ساحة المدينة.
- لا ريب أنّ موقع الفرناق كان حيث تواجدت أفران الفخّار fornaces وليس أفران الجير (البناء في دمشق من الطين).
- البريص مكان القصر.
- الفسقار هو المكان الذي يصنع فيه شراب fusca (foscarion) ويباع.
- المقسلاط حيث تتلاقى الأسواق المسقوفة macella وكان أمامها عقد عظيم يسند صنماً لشخص يقف باسطاً ذراعه.
نفّذت معظم هذه الأعمال البلديّة العظيمة في ملك سبتيموس سيفيروس وكاراكالا (نهاية القرن الثاني إلى مطلع القرن الثالث الميلادي).
(١) طرح الألمانيان Wulzinger & Watzinger فرضيّة السور الروماني المستقيم قبل Sauvaget وتحدّاها الأمريكي Paul Chevedden عام ١٩٨٠ وعاد الفريق الفرنسي Mouton - Guilhot - Piaton إلى تبنّيها في أفضل دراسة عن أسوار وأبواب دمشق إلى اليوم (٢٠١٨).
(٢) علّ الأصحّ أنّ Temenos هو الداخلي و peribolos الخارجي (Burns وغيره) ولكنّني فضّلت نقل ما كتبه Sauvaget كما هو. للتبسيط يمكن اعتماد مصطلح "المعبد الخارجي" أو "المعبد الداخلي" فحسب. يجدر هنا التنويه أنّ مساحة المعبد الداخلي تكافىء الجامع الأموي الحالي على وجه التقريب.
(٣) التخطيط الشطرنجي في العهد الروماني الذي سلّم به Sauvaget وغيره كان مرحلة عابرة وقشرة خارجيّة حسب Dentzler.
(٤) دعي الشارع الشمالي بين المعبد والساحة "الطريق المقدّسة" Via Sarca ويوافق القيمريّة حاليّاً. لربّما افترض Sauvaget وجود التماثيل في الأروقة المذكورة استناداً إلى النماذج التدمريّة.
فؤاد إفرام البستاني. دمشق الشام. المطبعة الكاثوليكيّة
يامن دبّور. أضواء على الجهة الجنوبيّة من سور مدينة دمشق. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة العددان ٥١-٥٢ للعامين ٢٠٠٨-٢٠٠٩.
No comments:
Post a Comment