الخارطة الملحقة لدمشق في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد عن Sauvaget والنصّ عن نفس المصدر. أي شرح أو تعليق في الحواشي أدناه.
عرفت دمشق نهضةً حقيقيّةً في هذا العصر يعود سببها في نهاية المطاف إلى مكانتها الجديدة كمقرّ لبلاط الأمير. أحاط بالعاهل ليس فقط عسكره ومماليكه الذين اعتمد على ولائهم وإنّما أيضاً مساعدوه وعمّاله وحتّى أهله وكلّ هؤلاء جلبوا معهم بدورهم خاصّتهم ومماليكهم. بالنتيجة وفد إلى دمشق جمهور قد لا يبدوا غفيراً في عدده المطلق للوهلة الأولى - بضعة ألوف على أكثر تقدير - (١) ويتعيّن مع ذلك التنويه بأهميّة هذه الزيادة نظراً للإمكانيّات الماديّة الوفيرة للقادمين ومساهمتهم في الرخاء الإقتصادي إلى درجة معتبرة. تعيّن على الأهالي ليس فقط تأمين الحاجات اليوميّة الكثيرة للمهاجرين وإنّما أيضاً إرضاء أذواقهم في البذخ وهكذا اشتغل عامّة الناس - حصراً من الناحية العمليّة - لحساب هؤلاء الوافدين ونشطت التجارة والصناعة في ظلّ الأمن الذي عاد أخيراً.
دمغ السلاجقة والأتابكة دمشق بطابع قدّر له الدوام بجعلها مركزاً حربيّاً وفكريّاً ودينيّاً وركّزوا سياساتهم لتحقيق انتصار الإسلام السنّي على الصعيد الخارجي (حربهم ضدّ الفاطمييّن والصليبييّن) والداخلي بدعاية لا هوادة فيها ضدّ هرطقات الشيعة. ترجم ذلك إلى العناية الخاصّة التي أولوها للمنشآت العسكريّة المكرّسة للدفاع عن المدينة (تعرّضت دمشق لتهديد مباشر من قبل الصليبييّن مرّتان: عام ١١٢٩ و ١١٤٨) وبناء المدارس بهدف تربية كوادر من الموظّفين حسب تعاليم السنّة.
اهتمّ الأمراء بالأمور العسكريّة إذاً ومن هنا عنايتهم بترميم سور المدينة خلال القرن الثاني عشر استعانةً بالمبادىء التي نعلّموها من التحصينات الرومانيّة والبيزنطيّة إلى جوارهم وبنوا جداراً جديداً (٢) في بداية القرن الثالث عشر خارج القديم على قسم من السور الشمالي وتشير الظواهر إلى مخطّط لتحديث السور بكامله - كما في حلب - بيد أنّ تنفيذه توقّف بسبب غزو المغول عام ١٢٦٠.
لدينا أيضاً - في إطار الحياة العسكريّة - الميدانان حيث يأتي السلطان وأمراؤه بانتظام للعب العصا والصولجان (polo) على ظهور خيولهم وحيث يتدرّبون مع مطاهم ليكونوا أبداً متأهّبين للجهاد. يمتدّ الميدان الأخضر غرب المدينة في المرج على ضفّة نهر بردى وهو أرض رحبة يبلغ طولها خمسمائة متر وعرضها مائة وخمسون من الأمتار على وجه التقريب ولها شواخص في كلّ من نهايتيها تحدّد موقع الهدف ولا ريب أنّها كانت مطوّقةً بالأشجار. الميدان الثاني جنوب المدينة أقلّ اتّساعاً وأرضه مفروشة بالحصباء ومنه اسمه ميدان الحصى.
توسّعت الأرباض مجدّداً تحت الظروف الاقتصاديّة الجديدة وأصبح لكّل من العقيبة والشاغور مسجدها الجامع (٣).
من أبرز المستجدّات في هذا العهد ميل لافت للنظر للتمييز الطبوغرافي بين الطوائف الدينيّة. لا ريب أنّ هذه النزعة بدأت في القرون السابقة وقدّر لها أن تتزايد مع الوقت وهكذا تجمّع المسيحيّون في الزاوية الشماليّة الشرقيّة للمدينة واليهود في الجنوبيّة الشرقيّة أمّا المسلمون فتزايد عددهم باضطّراد في القسم الغربي للنسيج العمراني الدمشقي.
نتج عن تكتّل المسلمين غرب المدينة تركّز طبوغرافيّ مماثل للأوابد العديدة التي بنيت لأجلهم وكان ذلك في محيط الجامع الأموي حيث شيّد البيمارستان النوري (أحد أشهر بيمارستانات الإسلام في القرون الوسطى) وكثير من المدارس المكلّفة بنشر معارف العلوم الإسلاميّة بين الأهالي والسهر على تعزيز ارتباطهم بالمذهب السنّي وكان التعليم فيها مجّانيّاً على الدوام.
بني مزيد من المدارس خارج السور في عزلةٍ مواتية للصلاة وتحصيل العلم. يمكن تمييز مجموعتين رئيستين من هذه المدارس تهيمن أولاهما على الميدان الأخضر حيث تواجدت قبور البرامكة حسب زعم الروايات والتي أحاطت بها مقابر الصوفيّة مع الزمن أمّا المجموعة الثانية فتقع على سفح جبل قاسيون الذي عجّ بالمدارس والخوانق والترب حيث تطوّرت بالنتيجة بلدة حقيقيّة في ضواحي المدينة دعيت الصالحيّة نسبة للشيخ أبي صالح الذي أسّس أوّل صرح في هذه المنطقة. ازدادت كثافة السكّان في الصالحيّة ولم يطل الوقت إلى أصبح لها مسجدها الجامع وسوقها. من ناحية ثانية استقرّت مستوطنة من الأكراد من قوم صلاح الدين شرق الصالحيّة. قد تبدو هذه الأرباض للوهلة الأولى امتداداتٍ ثقافيّة للمدينة ولكنّها في الحقيقة عاشت مستقلّةً عن المركز في دمشق لعدّة قرون.
لم يغيّر هذا الازدهار والتكاثر في الأوابد المظهر العامّ لمدينة دمشق إلى الدرجة التي قد يخالها المرء. لا ريب أنّ هذه المشيّدات كانت جيّدة التصميم والتنفيذ وأنّ جدرانها المبنيّة من الحجارة النحيتة تميّزت عن الجدران الطينيّة للدور حولها بيد أنّها لم تبرز فوق أسطح هذه الدور إلى درجة ملحوظة ولم تكن القباب التي علت أضرحة مؤسّسيها بما يكفي من الارتفاع والضخامة كي تتجنّب الضياع وسط المشهد الشامل المحيط بها. عمليّاً لم تؤثّر هذه المدارس على دمشق من الناحية الجماليّة إلى درجة يعتدّ بها.
حرص الحكّام - المتعلّقون بأهداب السنّة - على بناء نصب تذكاريّة في الأماكن التي يفترض أنّ الصحابة دفنوا بها حسب الروايات المتداولة وكان ذلك في المقابر الواقعة خارج سور المدينة خصوصاً المقبرة الكبيرة في الباب الصغير.
(١) "بضعة ألوف" من الوافدين الجدد رقم كبير في مدينة لم يتجاوز عدد سكّانها وقتها بضعة عشرات من الألوف.
(٢) من هنا أتت تسمية "بين السورين".
(٣) جامع التوبة في العقيبة والجرّاح في الشاغور.
فؤاد إفرام البستاني. دمشق الشام. المطبعة الكاثوليكيّة
No comments:
Post a Comment