لم يكن الرخاء الاقتصادي الآنف الذكر النتيجة الوحيدة الغير متوقّعة لتسلّط المماليك: بنى هؤلاء الجنود الجهلة الأجلاف عدداً كبيراً من الأوابد التي جعلت الشام درّةَ بكلّ معنى الكلمة. عاش المماليك في حالةٍ من القلق الدائم ومن هنا اهتمامهم بتأمين مدافنهم - الترب - وتجميلها بواجهات أبلقيّة وقباب مرتفعة وكسوة زخرفيّة. بثّت هذه الترب خلال النسيج العمراني هنا وهناك لمحات من الألوان الجميلة واصطفتّ خصوصاً على طريق مكّة كي يستفيد الواقف الفقيد من دعاء الحجّاج في سبيلهم إلى الديار المقدّسة. نتج عن نموّ المدينة وتطوّر الفكر الديني فيها طفرة في بناء الجوامع (المساجد الجامعة) التي انتشرت في هذا العهد إلى جميع الأحياء وسمت مآذنها المربّعة أو المضلّعة - بشرفاتها وبوارزها - من كلّ حدب وصوب فوق مستوى أسطح الدور لتضفي نبرةً جديدةً على سماء مدينة دمشق ونظارتها خاصّةً في شهر رمضان عندما تدلّت أكاليل الأنوار منها.
أخذت بوادر أزمةٍ اقتصاديّة بالظهور اعتباراً من منتصف القرن الخامس عشر إذ على المدى الطويل أدّى النظام اللامعقول الذي هيمن على مصر وسوريّا لمائتيّ عام إلى افتقار عامّ وفرغت خزينة الدولة التي عاشت مذ ذاك من يوم ليوم عن طريق استنباط حلول مؤقّتة واعتباطيّة. تناقصت القدرة الشرائيّة لأكابر البلد وأصاب الكلال الصناعة ورزحت التجارة تحت نير ضرائب الماليّة التي لا ترحم وابتزاز الموظّفين إلى أن أجهزت عليها اكتشافات البرتغالييّن الجغرافيّة التي جرّدت البجر المتوسّط من أولويّته التاريخيّة كأهمّ طريق للتبادل. عانت دمشق بالذات من الدمار الذي أصابها في كانون أوّل عام ١٤٠٠ على يد تيمورلنك (١) الذي حرمها من العديد من الحرفييّن المهرة من النسّاجين وعامليّ الزجاج والسلاح الذين سباهم إلى سمرقند. لم تنهض دمشق أبداً من هذه الكارثة وعندما فتحها السلطان العثماني سليم الأوّل عام ١٥١٦ وجد أمامه مدينةً نصف خربة.
تعود الصورة الملحقة لجامع منجك في حيّ الميدان (أواخر القرن الرابع عشر أو مطلع الخامس عشر) إلى مطلع ثلاثينات القرن العشرين.
(١) صحيج أنّ تيمورلنك دخل دمشق في كانون أوّل عام ١٤٠٠ ولكن استباحتها جرت في مطلع ١٤٠١ (شباط - آذار).
فؤاد إفرام البستاني. دمشق الشام. المطبعة الكاثوليكيّة
No comments:
Post a Comment