نتابع معاً رواية الجنرال Andréa عمّا أسماه عصيان الدروز وتسمّيه المراجع المحليّة الثورة السوريّة الكبرى. منشور اليوم - والأيّام القليلة المقبلة - عن دمشق تحديداً.
عاد المندوب السامي (١) إلى دمشق في الثامن عشر من تشرين أوّل أكتوبر عام ١٩٢٥ من جولةٍ تفقّد خلالها حاميات حوران. استعمل في عودته الخطّ الحديدي وتعرّضت العربة التي استقلّها لطلقات ناريّة خلال مرور القطار في ضاحية الميدان. تمخّضت عيارات البنادق عن ضحايا من النساء والأطفال في الحيّ الأرمنيّ المجاور.
كان هذا الحدث بمثابة إشارةٍ لأعمال شغب سرعان ما خرجت عن الموقع الذي بدأت به وانتشرت باتّجاه مركز المدينة حيث انغمس المتمرّدون في مشاهد يتعذّر وصف قسوتها ووحشيّتها. قام العوامّ المتعصّبون بذبح بعض الجنود السائرين بمفردهم في أمن واطمئنان وصرعوا صفّ الضابط ساعي بريد المشفى العسكري والجندي المرافق له في الشارع وعلّقوهم على الخوازيق. علاوةً على ذلك طُعِن إثنان من صفّ الضبّاط في حيّ الشاغور وفُوجىء في مكان آخر سبعة من القنّاصة الجزائرييّن بالشغب فلجأوا إلى أحد البيوت قبل أن يضرم المتمرّدون النار به ويحرقون هؤلاء التعساء أحياءً. حُوصِرَ مركز الحراسة في قصر العظم وهو آبدة تاريخيّة تملكها (٢) فرنسا ومقرّ المندوب السامي خلال إقامته في دمشق. أضرم المتمرّدون النار في البناء الأثري (٣).
انتشرت الفتنة بكلّ أهوالها انتشار النار في الهشيم ممّا استدعى إخمادها على جناح السرعة قبل أن تمتدّ إلى الحيّ الأوروپّي (٤) ويرتعد المرء إذا فكّر بما يمكن حدوثه في هذه الحالة.
تمّ إخطار سلاح المدفعيّة الذي أطلق عشرة قذائف من عيار ١٢٠ على حيّ الشاغور مقرّ زعماء العصاة. كان الأثر حميداً إذ توقّف إطلاق النار وعاد الهدوء وانصرمت الليلة التالية دون حادث يستحقّ الذكر.
استؤنفت الطلقات في الصباح وهام المتمرّدون في الشوارع وأرهبوا الأهالي. تمّت بالنتيجة السيطرة على الحريق في قصر العظم بيد أنّ الإمدادات الضروريّة لمركز الحراسة لم تصل في الوقت المناسب وتعرّض محيطه المباشر لرصاص العصاة الكامنين في زوايا الشوارع أو المختبئين في الدور المجاورة. استأنفت المدفعيّة قصف حيّ الشاغور على فترات شديدة التباعد للحدّ من الدمار. لم يتعدّ قصدُنا تحذير المتمرّدين وإيقاع الرهبة في نفوسهم تماماً كما في الأمس ولكن أثر القصف كان أقلّ وبقيت البلبلة على أشدّها في الحيّ أثناء الليل.
ازدادت جسارة العصاة صباح العشرين من تشرين الثاني أكتوبر واستطاعوا النفوذ إلى ثكنة الدرك السورييّن والاستيلاء على أسلحتها وذخائرها دون مقاومةٍ تذكر. عقد قائد الموقع العزم بعد هذه الضربة الجريئة والوخيمة العواقب، على التصرّف بمزيد من الحزم وبناءً عليه تعرض حيّ الشاغور الذي لا يزال تحت هيمنة العصاة إلى قصف عنيف واسع النطاق فهم زعماء الثوّار على إثره أنّ الفرنسيّون غاضبون حقّاً وأنّه من الأفضل التفاهم معهم عوضاً عن الاستمرار في إثارة القلاقل في المدينة. طلب هؤلاء الزعماء وقف إطلاق النار وأرسلوا وفداً للتفاوض مع سلطات الانتداب.
فرض المسؤولون على دمشق غرامةً بلغت عشرين ألف ليرة (٥) وطالبوا بالتسليم الفوري لثلاثة آلاف بندقيّة. تمّ قبول هذه الشروط وعاد الهدوء إلى المدينة على الأقلّ ظاهريّاً. كلّفتنا هذه المأساة في ثلاثة أيّام أرواح أربعة عشر جنديّاً وجُرِح إثنان وثلاثون وفُقِد أحد عشر.
يتبع.
(١) المندوب السامي وقتها الجنرال Sarrail.
(٢) صحيح. اشترت فرنسا القصر من ورثته بمبلغ ضخم.
(٣) الصورة الملحقة للدمار الذي لحق بالقصر بعد هحوم الثوّار - المتمرّدين عليه عن السيّد de Lorey (المرجع أدناه) وما تتداوله المواقع السوريّة ووسائل التواصل الاجتماعي العربيّة أنّ الأضرار نجمت عن القصف الفرنسي لا أساس له من الصحّة. هناك من يقول أنّ هذه الأضرار حتماً تتيجة قصف مدفعيّة وطيران ولا يمكن أن تسبّبها أسلحة الثوّار الفرديّة وردّي على هؤلاء أن الحيّ المسيحي في دمشق دمّر عن بكرة أبيه عام ١٨٦٠ وقتل آلاف من الناس دون أدنى استعمال للأسلحة الثقيلة. الهدم والتخريب كان ولا يزال وسيبقى أسهل بكثير من البناء.
(٤) المقصود الأحياء شمال وغرب دمشق: طريق الصالحيّة والجسر وما بينهما حيث سكن الفرنسيّون والأجانب عموماً إلى جانب محبّي الحداثة من الأهالي.
(٥) مائة ألف ليرة ذهبيّة توجّب دفعها خلال ثلاثة أيّام حسب Poulleau (ص ١٠٠).
No comments:
Post a Comment